من القيم إلى القيود.. تشريعات الهجرة الجديدة تعيد رسم هوية قارة أوروبا

بين الهوية والأمن القومي

من القيم إلى القيود.. تشريعات الهجرة الجديدة تعيد رسم هوية قارة أوروبا
الهجرة غير الشرعية

في تصعيد غير مسبوق، تواصل أوروبا اعتماد حزمة من التشريعات والإجراءات التي تقيد حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء، خاصة فيما يتعلق بالإقامة ولم الشمل العائلي، ويصف خبراء في الشؤون الأوروبية هذا التوجه بأنه ليس مجرد استجابة مؤقتة لصعود اليمين المتطرف، بل يمثل تحوّلًا هيكليًا يعيد صياغة الهوية السياسية والاجتماعية للقارة العجوز.

وقبل أيام، صوّت البرلمان الهولندي، على تشديد قوانين اللجوء والهجرة ولمّ الشمل العائلي، في خطوة عدّها مراقبون الأشد منذ عقود. 

وتتضمن القوانين الجديدة تجريم الإقامة دون أوراق ثبوتية، وتجريم تقديم أي مساعدة للمهاجرين غير النظاميين، بما يشمل منظمات الإغاثة وحتى الأفراد. كما تمنح السلطات صلاحيات موسعة لرفض طلبات اللجوء وتقييد إجراءات لمّ الشمل، وفق ما نقلته وكالة "أسوشيتد برس".

ورغم إقرار القانونين في مجلس النواب، لا تزال بحاجة لموافقة مجلس الشيوخ المتوقع مناقشتها في خريف 2025، وسط انقسام سياسي قد يعيق تمريرها نهائيًا. وتعود هذه التشريعات لضغوط من حزب الحرية (PVV)  بقيادة اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، الذي وصف القانون بأنه "أشد قانون لجوء على الإطلاق"، ورغم انهيار الائتلاف الحكومي السابق، واصل الحزب الدفع باتجاه تمرير القوانين بمشاركة شركائه السابقين.

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن هولندا سجّلت في 2024 نحو 32 ألف طلب لجوء، تلاها انضمام 10 آلاف فرد عبر لمّ الشمل، قبل أن تسجل تراجعًا بنسبة 50% في عدد الوافدين خلال الربع الأول من 2025، ما يعكس تأثير السياسة المتشددة.

في تحول أكثر حدة، أصبحت النمسا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تتبنى رسميًا قرارًا بوقف لمّ شمل عائلات اللاجئين، خاصة الحاصلين على الحماية الثانوية. وبرّرت الحكومة القرار بـ"حماية الخدمات العامة من الانهيار"، مشيرة إلى ضغوط شديدة على قطاعات الصحة والتعليم، نتيجة استيعاب عشرات آلاف القاصرين الوافدين ضمن برامج لم الشمل.

وأكد المستشار النمساوي كريستيان شتوكر، أن بلاده استقبلت بين 2023 و2024 نحو 18 ألف فرد عبر لم الشمل، 13 ألفًا منهم من الأطفال، ما يتطلب "قرارًا مسؤولًا بالتجميد المؤقت"، إلا أن منظمات حقوقية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، وصفت القرار بأنه "اعتداء غير مبرر على حقوق اللاجئين"، كما عبر حزب الخضر عن قلقه من تعارض القرار مع القانون الدولي واللوائح الأوروبية.

وتتضمن السياسات الجديدة بعض الاستثناءات، أبرزها القاصرون غير المصحوبين، والأطفال الذين لا يزال أحد الوالدين في بلد المنشأ. غير أن القرار يبقى تحوّلًا حادًا في سياسة الهجرة النمساوية، التي كانت سابقًا منفتحة نسبيًا مقارنة بدول أوروبية أخرى.

وفي السياق ذاته، أقرت فرنسا قيودًا جديدة على تسوية أوضاع المهاجرين، أبرزها تمديد فترة الإقامة اللازمة من 5 إلى 7 سنوات، وتشديد تنفيذ قرارات الترحيل، أما ألمانيا، فشهدت هي الأخرى تقليصًا لفئات اللاجئين المؤهلين للمّ الشمل، وتعديلات على شروط الجنسية، وسط انتقادات حقوقية متزايدة.

أوروبا تعيد رسم هويتها

بدوره عدّ الباحث الفرنسي في الشؤون الأوروبية، بيير لويس ريمون، في تصريح لـ"جسور بوست" أن "ما نشهده من تضييق على المهاجرين في أوروبا هو انعكاس لتحول أعمق في القيم الأوروبية، نحو تعزيز الهويات الوطنية على حساب التعدد والتعايش". 

وأضاف ريمون أن الأمر لم يعد مجرد صعود عابر لليمين، بل هو إعادة تشكيل لمنظومة متكاملة تكرس عقيدة الانغلاق والجنوح نحو فرض القيود على المهاجرين.

وأشار ريمون إلى أن هذا التوجه قد يستمر على المدى المتوسط، قائلاً: "التحدي الأوروبي الأساسي سيكون في مدى القدرة على مقاومة هذا المسار إلى أن تضعف عقيدة اليمين المتطرف، لكن ذلك قد يستغرق سنوات". 

وحذّر الباحث الفرنسي من أن استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى "تقزيم فضاءات التبادل، ليس فقط في حرية التنقل، بل في التجارة والرخاء الاقتصادي".

تضييق ممنهج وتهديد لليبرالية

ومن جانبه حذر الدكتور ديمتري بريجع، خبير الشؤون الأوروبية والدولية، من أن السياسات الأوروبية المتزايدة في تضييق الخناق على المهاجرين ليست مجرد استجابة عابرة لصعود اليمين المتطرف، بل تعكس تحولات هيكلية أعمق تُعيد تشكيل هوية القارة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وقد تكون لها تبعات كارثية على المدى الطويل.

وفي تصريح خاص لـ"جسور بوست"، أكد بريجع أن "ما نشهده اليوم من تضييق أوروبي على المهاجرين ليس مجرد رد فعل عابر أو سياسة مؤقتة مرتبطة بتصاعد اليمين المتطرف فقط، بل هو انعكاس لتحولات أعمق تعيد تشكيل هوية أوروبا السياسية والاجتماعية والاقتصادية".

ومضى قائلاً: "وجود اليمين الشعبوي والمتطرف في الحكم أو حتى كقوة ضغط داخل البرلمانات يسرّع بالفعل من تبني هذه السياسات، لكن الجذور أعمق بكثير من ذلك".

وأوضح الخبير الأوروبي أن التداعيات الأخطر لهذه السياسات ستظهر على ثلاثة مستويات مترابطة، أولها على الصعيد الداخلي، حيث "تؤدي هذه التوجهات إلى تفكيك القيم الليبرالية والإنسانية التي قامت عليها فكرة الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية".

وأضاف: "عندما تصبح حقوق الإنسان مشروطة بالمواطنة أو بالإقامة النظامية، فإن أوروبا تكون قد تخلّت فعليًا عن فكرة الكونية التي تفاخر بها لعقود".

وأشار إلى أن هذا التراجع قد يفتح الباب أمام تصاعد التمييز والعنصرية وخلق أجيال كاملة من المهمشين داخل المجتمعات الأوروبية، ما يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي في المستقبل.

أما على المستوى الثاني، فقد اعتبر بريجع أن "أوروبا مهددة بفقدان ما تبقى من مصداقيتها الأخلاقية والسياسية، خاصة في علاقاتها مع دول الجنوب التي تشكل المصدر الرئيسي للمهاجرين". 

وتابع متسائلًا: "كيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطالب الدول الأخرى باحترام حقوق الإنسان، في حين ينتهكها في الداخل؟ هذه المفارقة ستُضعف من قدرته على التأثير الدبلوماسي والسياسي عالميًا".

وعلى المستوى الثالث، شدد بريجع على أن أوروبا تواجه تناقضًا استراتيجيًا خطِرًا، إذ إنها تحتاج إلى المهاجرين لتعويض النقص الديموغرافي وشيخوخة السكان، خاصة في قطاعات حيوية مثل الصحة والرعاية والبناء والخدمات، مؤكدًا أن استمرار هذه السياسات دون حلول بديلة سيفاقم أزمات سوق العمل وأنظمة الضمان الاجتماعي والاقتصاد الكلي.

هل ينجح هذا النهج الأوروبي؟

وردًا على سؤال حول احتمالات نجاح أوروبا في الاستمرار في هذا الاتجاه المتشدد، قال بريجع: "نعم، قد تنجح مؤقتًا طالما ظل الخطاب الشعبوي هو المسيطر، وطالما استمرت الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تغذي هذا الخطاب".

لكنه حذر في الوقت نفسه من أن "هذه السياسات ستصطدم عاجلًا أم آجلًا بوقائع ديموغرافية واقتصادية صارخة، ما سيجبر أوروبا على التراجع أو مواجهة أزمات داخلية غير مسبوقة".

وعن مستقبل حقوق الإنسان في ظل هذا التوجه، أشار الخبير إلى أننا "نشهد بالفعل بداية هذا التآكل الخطِر، حيث يتم اختزال حقوق الإنسان إلى نطاق ضيق يخدم فقط المواطن الأوروبي، في حين يُحرم المهاجر من حقه الطبيعي في الحياة والكرامة والتنقل".

واختتم الدكتور ديمتري بريجع تحليله بتساؤل جوهري وصفه بأنه يمثل صلب الأزمة الحالية: "ما يحدث اليوم يفتح الباب أمام سؤال وجودي خطِر: أيّ أوروبا نريد أن نراها في العقود المقبلة؟ هل هي أوروبا الحصون المغلقة والمجتمعات الخائفة؟ أم أوروبا القيم الإنسانية والحرية والعدالة التي طالما ألهمت العالم؟".

تبدو أوروبا أمام مفترق طرق حاسم بين الحفاظ على قيمها الإنسانية التي بُني عليها الاتحاد، وبين الانجراف وراء موجات التشدد والانغلاق، وبينما تستمر الضغوط السياسية والاقتصادية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح القارة العجوز في تحقيق توازن بين أمنها الداخلي والتزاماتها الحقوقية، أم أنها ماضية نحو إعادة تعريف نفسها على حساب المبادئ التي طالما تباهت بها!



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية