بين الأرض والهوية.. الصراعات القبلية تزيد معاناة السودان

بين الأرض والهوية.. الصراعات القبلية تزيد معاناة السودان

يقطن محمد في حي "اللعوتة" أحد الأحياء الجنوبية لمدينة الرصيرص الواقعة في إقليم النيل الأزرق جنوب شرقي السودان، على مقربة من الحدود السودانية- الإثيوبية، والذي شهد أحداث عنف بين قبيلتي "الهوسا" و"الفونج" منتصف "يوليو" الماضي، والتي راح ضحيتها (105) قتلى و(291) جريحا، بحسب وزارة الصحة السودانية.

يحكي محمد عثمان عن المعاناة التي يواجهها أهالي وسكان المنطقة جراء الصراعات القبلية، قائلا: “حاصروا منازلنا في ما يشبه الحرب وهاجمونا بوحشية، اقتحموا منزلنا، وأطلقوا رصاصتين تجاه والدي الذي كان يؤدي صلاة الظهر فقتلوه”.

محمد الذي فقد أيضا 7 من أقاربه يقول لــ"جسور بوست": "تم تجميع الأسرى الذين سلموا أنفسهم بالمسجد الكبير تمهيدا لنقلهم إلى معسكرات خارج المدينة، أغلبهم من  النساء والأطفال، من بينهم أمي وشقيقاتي"، لاحقا تمكن محمد من تهريب أمه خارج البلدة.

يقول محمد الذي ينتمي لقبيلة "الهوسا": "على مدى يومين من التقاتل لم نرَ قوات أمنية، فقدنا 15 شخصا من معارفي لا نعلم مصيرهم، تشوهت الجثث ولم يعد بمقدورنا التعرف عليها، لم يعد لدينا سبب للبقاء، بعد حرق منازلنا، أبحث عن عمل في ولاية أخرى، ولن أرجع أبدا، فالوضع أصبح غير آمن بعد اليوم".

وأفادت نشرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان (أوتشا) يوليو الماضي، بأن أعداد النازحين بمحليات ولاية النيل الأزرق بلغت أكثر من (17) ألف شخص، بينهم (15) ألف نازح من محلية الرصيرص فقط، وبحسب (أوتشا) يقدر عدد سكان النيل الأزرق بنحو (1,3) مليون نسمة. 

على الرغم من توقيع اتفاق لوقف العدائيات بين "الهوسا" و"الفونج" الأسبوع الماضي، إلا أن الأمير محمد نور الدين، أمير قبائل "الهوسا" بإقليم النيل الأزرق، وصف بعض بنود الاتفاق في حديث بالهاتف لـ"جسور بوست" بــ"المجحف"، لتضمينه بندا ينص على منع سكان أحياء من العودة لمنازلهم إلا بعد حين، “حيث يوجدون الآن في معسكرات في وقت تنهب فيه منازلهم”.

تندلع هذه الاشتباكات عادة بسبب نزاعات حول الأرض والمياه الموردين الرئيسيين للزراعة والرعي وهما النشاطان الرئيسيان في هذه المناطق، ويمتهن "الهوسا" الزراعة كحرفة أساسية لهم، ويقدر "الهوسا" في السودان بـ(3) ملايين -وفق احصائيات غير رسمية- ينتشرون في جميع أنحاء السودان ويتركز ثقلهم في إقليم النيل الأزرق.

صراعات الهويات أم الموارد؟

أعادت أحداث النيل الأزرق، المخاوف بشأن الصراعات القبلية واتساع رقعتها في السودان، وبحسب مدير مركز دراسات السلام بجامعة الخرطوم بروفيسور موسى آدم عبدالجليل، فإنه لا يوجد ما يسمى بصراع الهويات، كشيء قائم بذاته، وإن الأسباب الجذرية لهذه الصراعات هي مصالح يمكن أن نطلق عليها موارد مادية "وهي ما يعبر عنها بالمصالح الاقتصادية"، أو موارد رمزية “وهي ما ترتبط بالسلطة السياسية” ويمكن ترجمتها لمصطلحي (السلطة والثروة) كمحورين يشكلان الأسباب الجذرية لصراعات مجموعات الهويات، والذي عادة يتبع خطوطا لها علاقة إما بتعارض في مصالح اقتصادية "ثروة" أو مصالح سياسية "سلطة"، وهو الغالب في هذه الصراعات.

وأضاف “موسى”، في حديثه لــ"جسور بوست"، أن الهوية تلعب هنا دور التعبئة، والتي دائما ما تحركها الصفوة السياسية، وضرب “موسى” نموذجا لاصطفاف الهويات بأول انتخابات للحكم الإقليمي أجريت بدارفور في 1981، حيث اصطفت القبائل العربية في دارفور في كفة واحدة في ما عرف بـ"التجمع العربي" للحصول على قيادة الإقليم. 

وقال إنه لاحقا تصارعت المجموعات في ما بينها على مناصب حكام الولايات بعد قيام نظام الحكم الفيدرالي في فترة "الإنقاذ" (النظام السابق للرئيس البشير والذي أسقط عبر ثورة شعبية)؛ بتقسيم إقليم دارفور إلى ولايات فأصبحت الأغلبية لمجموعات معينة في بعض الولايات، وهو ما تبعه زيادة حدة الصراع في ما بين المجموعات القبلية أو الإثنية المختلفة. 

وتابع أن من الأسباب الجذرية للصراعات القبلية، ضعف مؤسسات حكم القانون وانحياز الدولة لإحدى الجماعات المتصارعة، وبجانب العوامل الجذرية يقول مدير مركز دراسات السلام إن هنالك عوامل مساعدة تزيد من حدة الصراع وهي (الجفاف والتصحر، التغييرات البيئية، انتشار السلاح، الحروب الإقليمية، أو دول الجوار).

ومن ناحيته، قال الصحفي والمحلل السياسي عبدالله رزق: "تبدو قنبلة الأرض، المشكلة التي تتفجر في أكثر من مكان بالسودان، أو تهدد بالانفجار أكبر من قدرات النظام القبلي وإمكانياته من حيث هي مشكلة قومية بامتياز وليست مشكلة جهوية أو إقليمية".

غياب المشروع الوطني 

وقال مستشار رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك، الباحث في قضايا التنمية عبدالله ديدان، إن العنف القائم على أساس العرق والإثنية في السودان معقد جدا ومرتبط بقضايا كثيرة متداخلة، من بينها الجانب السياسي والاقتصادي المرتبط بالموارد، والجانب المرتبط بصراع المجموعات الإثنية والعرقية حول السيطرة، ما يقود إلى سؤال الهوية، الذي لا يمكن الحديث عنها دون الرجوع للأسباب الجذرية والتي تتمثل –بحسب ديدان– في “غياب المشروع الوطني للدولة السودانية القائمة على تعدد وتنوع حاد، والذي بينه تضاد في تقاطعاته”.

واستشهد “ديدان” بإقليم دارفور كإقليم شهد نزاعات سياسية مسلحة، قائلا إنه يشهد نزاعات عرقية وإثنية وقبلية مركبة، حيث يعاني الإقليم من انقسام عرقي (عرب وأفارقة) هذه التركيبة –بحسب ديدان- تم استثمارها سياسيا لأن الوحدة الوطنية في السودان لم تُبنَ على مشروع وطني قائم على مفهوم إدارة التنوع (عرقيا، دينيا، لغويا، واقتصاديا، مناخيا، وبيئيا).

وقال “ديدان”، إن الصراع حول تعريف الهوية بعد الاستقلال وتحديدا بعد ثورة اللواء الأبيض 1924 ذهب في اتجاه خاطئ وهو تعرف الهوية عبر العروبية والأفريقانية والدين، مضيفا أن هذا "المثلث الشرير" زاد من حدة الانقسام، وأصبح هنالك صراع السيطرة على الموارد والسلطة وعلى المجتمع نفسه وتوجيهه من جانب كل طرف لصالح مشروعه الثقافي سواء كان عروبياً أم إفريقياً أو (إسلامياً- مسيحياً)، وهذا ما مثل الأعمدة الرئيسية للصراع، ومن تداعياته أصبحت هنالك مجموعات مسيطرة وأخرى ليست لديها فرصة للسيطرة ولا تملك أدواتها، 

وتابع: ولذلك تكونت مجموعات مصالح لها نزعاتها الثقافية سواء عربية إسلامية أو إفريقية مسيحية أو إفريقية، ما جعل هنالك نزاعات مسلحة حول السلطة والموارد لأن هنالك عوامل برزت جعلت الهوة تتسع بين المكونات السودانية وهي (المشاركة، الشرعية، الهوية، نظام الحكم وإدارة الموارد) وهي تمثل العوامل الجذرية للنزاعات الناجمة من الفشل في إدارة التنوع وعدم التخطيط له، فبرزت النزاعات المسلحة.

وأشار ديدان في مقاربة لحالة "دافور" والتي تشهد نزاعات مسلحة منذ عام 2003 راح ضحيتها نحو (300) ألف قتيل وأكثر من مليوني نازح بحسب الأمم المتحدة، إلى أن تداعيات النزاعات المسلحة والاستثمار في النزاع القبلي والعرقي من كل الأطراف فجر الصراع بين المجموعات القبلية والعرقية والإثنية حول السيطرة على الأرض المورد الرئيسي، خصوصا بعد النزوح بسبب الحرب الواسعة والشاملة، وعمل نظام "البشير" على توطين الوافدين (مجموعات مواليه له) في أراضي النازحين المملوكة لهم تاريخيا وهي أراضٍ زراعية وغنية بالموارد المعدنية.

اتفاقيات السلام

لم تفلح اتفاقيات السلام الكثيرة التي أبرمتها الحكومات السودانية مع حملة السلاح وأشهرها (اتفاقية أديس أبابا 1972، واتفاقية السلام الشامل "نيفاشا" 2005، واتفاقية أبوجا 2006، واتفاق شرق السودان 2006، واتفاقية الدوحة 2003، واتفاق سلام جوبا 2022) في إنهاء العنف القبلي.

ويقول البروفيسور موسى، إن هنالك سمات مشتركة بين جميع اتفاقيات السلام وهي أن الحكومة المفاوضة لا تتحلى بالمصداقية في ما يتعلق بجهود إرساء السلام، ودائما ما تكون أنشطتها في هذا الجانب تكتيكية حيث تتباطأ الحكومة في تطبيق الاتفاقية، كما لا يتم مخاطبة جذور الأزمة. 

وأضاف أنه رغم أن الأرض واحدة من أسباب الصراع في كل المناطق، إلا أن مثلا مفوضية أراضي دارفور المنصوص عليها في اتفاق "سلام جوبا" لم يتم تمكينها للقيام بعملها، والمفوضية القومية للأراضي الواردة في اتفاقية السلام الشامل "نيفاشا 2005" لم تنشأ رغم أنها كانت من أهم المطلوبات وكان مطلوباً تطبيقها في النيل الأزرق أيضا، فضلا عن أن الصراعات التي ظهرت بعد انفصال الجنوب لها علاقة بالأراضي، وهي لم تنشأ عن قصد لأن الحكومة لم تكن راغبة في تطبيق اتفاق السلام. 

السبب الآخر المتعلق بعدم تطبيق الاتفاقيات هي أن الاتفاقيات تتم بين السياسيين الذين يمثلون الحكومة وزعماء الحركات المسلحة في غياب تام لأصحاب المصلحة الحقيقيين.

وهو ما يذهب إليه "ديدان" الذي يقول إن المشكلة تتمثل في التركيبة البنيوية للدولة السودانية، بجانب أن عملية صناعة السلام لم تتم بمشاركة القوى التي تقود المجتمع وسكان الأقاليم التي شهدت النزاعات، بجانب الضحايا، وأن الاتفاقيات تمت في ظل أنظمة غير ديمقراطية، إضافة إلى غياب المحاسبة وعدم تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية للانتهاكات التي ارتكبت ضد المدنيين في مناطق النزاعات، وبالتالي تظل المظالم قائمة وعند أول ضعف للشراكة بين الحاكمين والموقعين من حملة السلاح تصبح هذه المجتمعات حواضن لعودة الحرب.

ويرى الصحفي والمحلل السياسي عبدالله رزق، أن مشكلة الأرض ملكيتها والحق في الاستفادة منها والانتفاع بها وما يرتبط بذلك من سلطة سياسية، كمحور رئيس للصراعات القبلية في دارفور وغيرها، لم تحظَ بأي معالجة جذرية.

وقال رزق في حديثه لـ"جسور بوست": لم يوفق “مبر” في إيجاد معادلة لحل مشكلة الأرض بمنهجية قابلة للتطبيق في مناطق أخرى من السودان مثل الجزيرة، حيث تحتقن مشكلة الكنابي.

اتفاق منح الروح لعودة الديمقراطية

على النقيض، يرى مدير مشروع الفكر الديمقراطي وأحد المشاركين في الوفد الحكومي لمفاوضات "سلام جوبا"، شمس الدين ضو البيت، أن الاتفاق أعاد الروح للديمقراطية، ويمثل محاولة لتحقيق العدالة للمناطق المهمشة بما فيها الجوانب التنموية، كما اعتمد الاتفاق على الثقل السكاني كأساس لتوزيع السلطة والثورة إضافة لترتيبات تفضيلية لمعالجة المظالم التاريخية للحاق بمتوسط التنمية في السودان عبر إعطاء (40%) من المستخرج من موارد الإقليم لسكانه لمدة عشر سنوات".

وأكد على الحقوق التاريخية في الأرض والتي من المفترض أن تحسم مشكلات الأرض، مشددا على أن الاتفاق يسهم في معالجة الصراعات القبلية ولكنه لم يطبق في أغلب بنوده.

شعارات صاخبة:

زيادة جرعات الوعي بأهمية الانتماء الوطني تمثل حلا لإنهاء الصراعات القبلية، بحسب بروفيسور موسى، الذي قال إنه لا يمكن محاربة القبلية بالشعارات، بل بأدوات عملية مثل تحسين سبل المواصلات والاتصالات، فالشعارات مثل "كل البلد واحد من حلفا إلى قيسان ومن بورتسودان إلى الجنينة" لا معنى لها في ظل وجود مواطنين لا يستطيعون الوصول لتلك المناطق لعدم وجود طرق معبدة أو كهرباء. 

وتعد البنيات الأساسية جزء من عمليات دعم الوحدة الوطنية، وبالتالي أي برنامج لا يدعم الوحدة الوطنية سيصبح مساعد في انتشار القبيلة، حتى تنحصر القبلية في إطار الهوية الثقافية الاجتماعية وتتقلص القبيلة من الفضاء السياسي والأمني إلى الفضاء الثقافي الاجتماعي.

ويرى "ديدان" أن الحل في الإصلاح السياسي للمؤسسات السياسية والحزبية أو الكيانات مثل (لجان المقاومة والكيانات النقابية والمهنية والمجتمع المدني والإدارة الأهلية وفتح حوار بينها حول تشخيص الأزمة السودانية، وتأسيس مشروع وطني قائم على إدارة التنوع وربط الناس بمصالحهم المشتركة، وهو ما لا يمكن توفره إلا في ظل بيئة ديمقراطية، بجانب دور الحركات المسلحة في إدارة حوار داخلي في ما بينها، وبين باقي المكونات، وعدم ربط الممارسة السياسية في الفترة الانتقالية بالوصول إلى السلطة.

ويرى والي ولاية كسلا السابق، صالح عمار، أنه ما زال بمقدور الدولة حل الصراعات القبيلة أو التخفيف من حدتها.

وعلى الرغم من الصراعات القبلية الضارية التي شهدها شرق السودان وتحديدا في عام 2020، احتجاجا من مكونات اجتماعية وقبيلة بشرق السودان على تعيين “عمار” -المنحدر من إثنية البني عامر- واليا على كسلا استخدمت فيها أدوات الهوية بكثافة مخلِّفة (7) قتلى وعشرات الجرحى وامتدت آثارها إلى ولايتي البحر الأحمر والقضارق شرقي البلاد.

يرى “عمار” أن أفراداً من الدولة يستخدمون ملف الصراعات القبلية لأهداف تتعلق بإعاقة الحكم المدني، وأن الصراعات داخل الدولة بدأ نقلها للإقليم.

ومضى قائلا: هناك مخاوف من استثمار الدولة في الصراع القبلي، لذا إن أرادت الدولة التدخل وحله فيمكنها ذلك لجهة أن الصراع سياسي في الأصل، ويرى عمار أنه دون حل المشكلات السياسية لن ينجح أي مشروع للتنمية.

من ناحيته، يرى مدير مركز الخرطوم لحقوق الإنسان، د. أحمد المفتي، أن النهج الحكومي القائم على التجريم غير مجدي فيما يتعلق بالنزاعات والصراعات القبلية.

وقال المفتي في تصريح خاص لـ"جسور بوست"، "يجب أن يتم استخدام أدوات الدولة في الوصول إلى توافقات بين الأطراف المتصارعة تأخذ مظالم كل فئة بصورة متوازنة، بالإضافة إلى تجريد الصراعات القبلية من أبعادها السياسية لجهة استخدام السياسيين القبائل لمصالح خاصة بها.

وأضاف أن الجميع يتفق على أنه دون مشروع وطني يوحد السودانيين وينهي الاستقطاب بينهم، ستظل الصراعات القبلية قائمة على اختلاف حدتها.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية