«ترييستي».. مدينة إيطالية تحترم حقوق المرضى في العلاج النفسي

بعيداً عن الإكراه والعزل

«ترييستي».. مدينة إيطالية تحترم حقوق المرضى في العلاج النفسي
إيطاليا

تحولت مدينة ترييستي الإيطالية إلى نموذج رائد في رعاية الصحة النفسية، حيث يختلف نهجها بشكل جذري عن أساليب الرعاية التي تُعتمد في دول أخرى مثل اليابان.

في وحدة الطوارئ النفسية التابعة لأحد المستشفيات العامة في ترييستي، يبقى الباب مفتوحًا دائمًا، ما يخلق بيئة غير تقليدية مقارنة بما هو سائد في العديد من المستشفيات النفسية حول العالم، وفقا لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية.

ويعتبر استخدام تقنيات الإكراه والعزل، التي يتم اللجوء إليها عالميًا في حالات الأزمات النفسية، في هذه الوحدة، غريبًا وغير مألوف، على العكس، تُعتبر الأجواء أكثر ودية وترحيبًا، حيث يُسمح للأصدقاء والعائلة بزيارة المرضى في مساحة تتميز بألوانها الزاهية والمقاعد غير الرسمية، والتي تخلق أجواء أقرب للمنازل منها إلى المستشفيات.

الرعاية المجتمعية

تُحل بعض المواقف الصعبة في ترييستي من خلال أنشطة بسيطة، مثل التنزه في حدائق المستشفى، كما يوضح دومينيكو بيتارارا، أحد الممرضين المميزين في الوحدة، حيث يضفي تصرفه الهادئ وملابسه غير الرسمية طابعًا مريحًا على بيئة العمل.

تحتوي الوحدة على 8 أسرّة فقط، ونادرًا ما يتم شغلها بالكامل، حيث يُطلق سراح معظم المرضى بسرعة ويتم تحويلهم إلى شبكة من مراكز الصحة النفسية المجتمعية التي تعتمدها المدينة.

توفر هذه المراكز الرعاية النفسية للمجتمع المحلي، ما يسمح بالتفاعل المستمر بين المرضى وأسرهم في بيئة أكثر دعمًا ومرونة.

طراز مختلف في الرعاية النفسية

منذ ما يقارب 50 عامًا، أصبح نموذج ترييستي في رعاية الصحة النفسية محط اهتمام عالمي، حيث يُظهر هذا النموذج اختلافًا جوهريًا مقارنةً بالدول التي تعتمد بشكل كبير على المستشفيات النفسية الكبيرة.

ورغم أن منظمة الصحة العالمية تؤيد الرعاية المجتمعية، لا تزال بعض الدول تتمسك بنموذج المؤسسات الكبيرة.

وفقًا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2022، تمتلك اليابان عددًا ضخمًا من الأسرة النفسية لكل 100 ألف شخص، حيث يصل العدد إلى 258 سريرًا، مقارنةً بعدد قليل جدًا من الأسرّة في إيطاليا.

وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها اليابان في تقليص معدلات الانتحار خلال العقدين الماضيين، ما زال النقاش مستمرًا حول أفضل الطرق لتقديم الرعاية للمصابين باضطرابات نفسية.

اختلافات واضحة

تقدر منظمة "متحدون للصحة النفسية العالمية" أن حوالي 8.6 مليون شخص حول العالم يعيشون في مؤسسات صحية نفسية تُعرفها منظمة الصحة العالمية كمستشفيات نفسية.

تشير المديرة التنفيذية للمنظمة، سارة كلاين، إلى أن تقديم الدعم على المستوى المحلي عبر الخدمات المجتمعية يُعد أكثر فاعلية من حيث التكلفة، كما يحترم حقوق المرضى بشكل أكبر.

ويعتقد المسؤول عن السياسات في منتدى كينيدي للصحة النفسية، ناثانيال كاونتس، أن الرعاية النفسية تتطلب نموذجًا متدرجًا يتناسب مع احتياجات المرضى في مراحل مختلفة من حياتهم وظروفهم الصحية.

وتُعد مدينة ترييستي مثالًا حيًا على نجاح الرعاية المجتمعية، حيث تم تحويل النظام الصحي النفسي من مؤسسة ضخمة تضم 1200 سرير إلى نظام يعتمد على مراكز الرعاية المجتمعية، هذا التغيير الكبير تم بقيادة فرانكو باسيليا، الذي عمل على تصميم نظام جديد يركز على العلاج المحلي ويعتمد على دعم المجتمع.

أسهم هذا التحول بشكل كبير في تقليص معدلات الانتحار في المدينة، حيث أظهرت الإحصائيات انخفاضًا ملحوظًا في هذه المعدلات بعد تطبيق النظام الجديد.

التخلص من البيروقراطية

أكدت مديرة الخدمات النفسية في ترييستي، أليساندرا أوريتّي، أن التخلص من البيروقراطية كان أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في نجاح النموذج المحلي، حيث يتمكن المرضى من زيارة المراكز النفسية مباشرة دون الحاجة إلى إحالة من طبيب، ما يسرع الوصول إلى العلاج ويقلل من احتمالية تفاقم المشكلات النفسية.

يُعتبر هذا الأسلوب من أبرز مميزات النموذج المجتمعي في ترييستي، إذ يضمن توفير الرعاية بشكل أسرع وأكثر فاعلية.

وألهم نموذج ترييستي العديد من المدن والدول حول العالم، حيث تبنّت العديد من المناطق هذا النموذج الناجح في تقديم الرعاية النفسية المجتمعية، مثل لوس أنجلوس، ولندن الشرقية، وحتى دول مثل البرازيل والأرجنتين قد استلهمت هذا النموذج وطبقته في أنظمتها الصحية.

ووفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2022، يُخصص أكثر من ثلاثة أرباع تمويل الصحة النفسية في البرازيل الآن للرعاية المجتمعية، ما يشير إلى التحول الكبير في هذا الاتجاه.

النموذج الياباني 

في حين أن بعض الدول قد نجحت في تبني نموذج ترييستي، ما زالت هناك تحديات في دول أخرى مثل اليابان، على الرغم من انخفاض معدلات الانتحار في اليابان بسبب التركيز على خطط الوقاية المحلية، لا تزال المستشفيات النفسية الكبيرة تلعب دورًا رئيسيًا في النظام الصحي النفسي الياباني.

ويتعرض هذا النموذج للانتقاد من قبل منظمات حقوق الإنسان، التي تشدد على ضرورة تطوير أساليب جديدة تتسم بالمزيد من احترام حقوق المرضى.

ضرورة الإصلاحات

أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها العالمي لعام 2024 ضرورة إجراء إصلاحات كبيرة في قطاع الرعاية النفسية في اليابان، حيث يستمر في استخدام أساليب مثل الحجز القسري والعلاج القاسي للمرضى النفسيين، ما يشكل انتهاكًا لحقوقهم الأساسية.

وتسعى هذه المنظمات إلى تحسين أوضاع المرضى النفسيين في العالم من خلال تطوير أنظمة صحية تعتمد على الاستثمار في الرعاية المجتمعية وتقليل الاعتماد على المؤسسات الكبيرة.

ومن خلال الجمع بين الاستثمار في الرعاية المجتمعية وتقليص الاعتماد على المؤسسات الكبرى، يمكن للدول أن تعيد تصميم أنظمتها الصحية النفسية بطرق أكثر احترامًا وفاعلية، ما يساهم في تحسين جودة حياة المرضى النفسيين ويحترم حقوقهم الإنسانية بشكل أفضل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية