الطفولة المبتورة في غزة.. أحلام صغيرة تتحدى الألم الكبير
الطفولة المبتورة في غزة.. أحلام صغيرة تتحدى الألم الكبير
تركت الحرب الإسرائيلية الأشد فتكًا والأكثر دمويةً على قطاع غزة آثارها المأساوية على أجساد الأطفال، ليظهر بعد انتهائها جيلٌ من مبتوري الأطراف حاملاً معه همومًا ومآسي عميقة وجروحًا لا تندمل.
بقدمٍ واحدة وعكازين، يقف الطفل صالح السطرية (11 عامًا) في ساحة استحدثها أصدقاؤه للعب كرة القدم قرب خيمة نزوح عائلته، بينما يَشخُص الطفل المكلوم بناظريه مُستذكرًا مواقفه حينما كان يلعب معهم.
يروي السطرية لـ"جسور بوست" يوم إصابته حينما قصف الجيش الإسرائيلي خيام النازحين بمنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
يقول السطرية إنه كان ذاهبًا لطحن بعض القهوة لوالده وانتظر تجهيز فتح المطحنة، لكنه لم يكن ليدرك أن حياته ستُقلب رأسَا على عقب، وأن تلك اللحظات القاسية ستظل عالقة في ذاكرته للأبد.
لم يعلم الطفل ما حل به لحظة الانفجارات المتتالية، لكنه شعر بشيء ما خلال تلقيه العلاج في داخل نقطة طبية تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر، حينما سألته والدته: هل ستكون بخير لو كنت بلا ساق، فرد الطفل: سأكون بخير وسيكون قلبي قويًا.
ببراءة الطفولة يقول السطرية: "إن الإصابة حرمتني من شغفي للعب كرة القدم وركوب دراجتي الهوائية ولم يعد بإمكاني ممارسة حياتي بشكل طبيعي".
ورغم آمال الطفل المُعلّقة في أن يُتاح له تركيب طرف صناعي يمكّنه من استعادة جزء من حياته السابقة، فإنه يخشى من نقص الكادر الطبي المُؤهِل للعلاج الطبيعي الذي قد يؤخر تأهله لتركيب الطرف في حال توفره.
معاناةٌ مستمرة
يقول عرفات السطرية والد الطفل صالح، إن معاناته مستمرة منذ إصابة ابنه في التنقل بين المستشفيات والنقاط والمراكز الطبية؛ أملاً في التخفيف من وطأة الإصابة التي ستلازم ابنه.
وبملامح مثقلة بالهموم يضيف الأب لـ"جسور بوست": ننتظر رحمة الله، وسجلنا ابني في قوائم المسافرين لاستكمال العلاج، ولم نتلقَ استجابة حتى اللحظة".
وعن معاناة طفله يتابع قائلاً: "كان ينام مرتاحًا لكن بعد الإصابة أصبح يقلق طيلة الليل، ويخاف معظم الوقت، ويخشى من الخروج ليلاً وتغيّرت حياته كليًا".
أطفأت الحرب مرح هذا الطفل وأغرقته في بحر من الحزن على حاله، ويمضي والده قائلاً: “كان صالح مَرِحًا ويلعب مع أقرانه من الأطفال، لكنه الآن لا يقوى على شيء وتقلّص نشاطه بشكل ملحوظ".
"حينما أنظر لعينيه أحس بأن شيئاً ما ينقصه، وأطالب العالم بأن يقف مع ابني لتركيب طرف صناعي له”، يقول والد الطفل لمراسل "جسور بوست".
ويشكو والده من صعوبة ظروف تنقل ابنه لاستكمال علاجه جراء وعورة الطرق وبُعد المسافات وغلاء أسعار سيارات الأجرة قائلاً: كان يمشي مسافات طويلة لتلقي العلاج الطبيعي.
يُتْمٌ وبتر
أما حال سيلا أبو عقلين (5 سنوات) فهو أشد مرارة، إذ تكابد الطفلة اليتيمة قسوة الحياة التي لم تدرك معناها بعد، عقب بتر قدمها واستشهاد والديها وأخواتها الثلاثة بفعل قصف إسرائيلي استهدف منزلهم بمدينة غزة.
ببراءة طفولتها تستذكر لحظة القصف حينما كانوا نيامًا وتقول سيلا لـ"جسور بوست": "استشهدت أختي صبا وفرح وليلى وماما وبابا وبقيت وحيدة".
وكما غيّرت الحرب في واقع هذه الطفلة ومستقبلها، فإنها كذلك غيّرت في أمنياتها على غير ما كانت تحلم به، إذ بات أقصى ما تريده هو علاجها والحصول على طرف يسندها كي "تركب العربة الصغيرة كباقي البنات"، برقة كلماتها تقول.
احتضان عائلي
تروي ياسمين الغفري خالة الطفلة سيلا، ظروف استشهاد عائلة الطفلة في 3 ديسمبر 2023، وبقائهم تحت الركام لأربعة أيام متتالية.
"منذ الحادثة ونحن نتنقل بين المستشفى والمجمع الطبي أملاً في إنقاذ ساقها، رغم الظروف الميدانية الصعبة، وبعد شهر ونصف الشهر توصل الأطباء لقرار بتر ساقها، فكانت صدمة بالنسبة لنا" تقول خالة الطفلة لمراسل "جسور بوست".
بكل أسى تتابع الغفري وتضيف: "كانت سيلا دائمة السؤال: وين رجلي ووين ماما بابا؟".
ومنذ عودة الطفلة لمنزل جدتها، لا تزال عالقة في ذاكرتها أجواء التنزه مع عائلتها في مدينة الألعاب وعلى شاطئ البحر.
تقول خالة الطفلة: "نحاول إسعادها وبث الفرحة في قلبها لكننا غير قادرين، لأن حالتها النفسية مُدمّرة بسبب ما حل بها واستشهاد والداها وأخواتها".
ولا تقتصر معاناة الطفلة على حالتها النفسية، إذ باتت كل تفاصيل حياتها مليئة بالمعاناة؛ كاستخدام المرحاض وارتداء ملابسها، فهي بعمر خمس سنوات لا تقوى على فعل أي شيء.
وكغيرها ممن ينتظر السفر للعلاج، تذكر الغفري أنهم يسعون بشكل حثيث لسفر سيلا أملاً في استكمال علاجها.
آلامٌ مُضاعفة
وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" إلى أنّ أكثر من ألف طفل في غزة أصبحوا مبتوري الأطراف منذ بدء الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، مضيفة أنّ الحرب سجّلت أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ.
وأفادت منظمة "أطباء بلا حدود" بأنّ مبتوري الأطراف في غزة معرّضون لخطر المضاعفات المميتة بسبب الافتقار إلى العلاج والمستلزمات الطبية المناسبة، في ظل نقص في المعدات التي تفتقر إليها غالبية المستشفيات، فضلًا عن صعوبة السفر للعلاج بما يساعدهم على مواجهة التحديات الجسدية والنفسية.
إحصائياتٌ مُروّعة
وأكد الدكتور سامي عويمر، مدير وحدة التأهيل بوزارة الصحة الفلسطينية، أنّ معظم الأطفال لديهم تحويلات مرضية وينتظرون السفر لتلقي خدمات الأطراف خارج غزة نظرًا لعدم توفرها محليًا.
وقال في مقابلة مع "جسور بوست"، إنّ نسبة الأطفال من العدد الكلي للجرحى الذين بترت أحد أطرافهم وصلت إلى 22%، وإن نحو 142 طفلاً ممن بترت أطرافهم بفعل الحرب ما زالوا في القطاع وينتظر معظمهم السفر لاستكمال العلاج.
وشدد على أن الوزارة لا تقف حاليًا على الأرقام الحقيقية لمن بترت أطرافهم خلال الحرب لأن هناك 3 لجان تعمل على حصر الأرقام الحقيقية وتصنيف حالتهم وأنواع البتر، "وتحققنا من وجود أكثر من ألف شخص وما زال هناك المئات ممن لم يسجلوا على رابط الوزارة الإلكتروني أو الوصول إلى لجان التقييم".
وتابع المدير بالوزارة: "هناك لجنة مُشكّلة من الوزارة واللجنة الدولية للصليب الأحمر تعمل على حصر بيانات الأشخاص مبتوري الأطراف، تمهيدًا لتفعيل ورشات متنقلة لتزويدهم بالأطراف الصناعية اللازمة".
مستقبل قاتم
ولفت عويمر إلى أنّ طبيعة القصف ونوعية الذخائر المستخدمة خلال الحرب جعلت من البتر حارقًا بدون نزيف، بمعنى إصابة الطرف بالبتر ثم الحرق.
كما أن "معظم حالات الإصابة كانت مشوهة وهذا صعّب إجراء العمليات الجراحية التي تؤهل الطرف للبتر بما يساعد على أن يتواءم مع الطرف مستقبلاً"، يؤكد المسؤول الصحي.
وبيّن عويمر أن عدم استقرار الحالة الصحية للجرحى والمصابين وإغلاق المرافق الصحية نتيجة النزوح المستمر والإقامة بالخيام في ظل ظروف صحية متردية وانقطاع عن الخدمات الصحية أدت لحدوث مضاعفات اضطرت إلى البتر خاصة عند الأطفال ممن كان يؤمل شفاؤهم.
وأشار عويمر إلى أن المسؤولية كبيرة على عاتق وزارة الصحة والمؤسسات الدولية في العناية بالأطفال الذين بُترت أطرافهم، خاصة أنهم بحاجة لتغيير أطرافهم مع مراحل تقدم نموهم، كما أنهم بحاجة للمتابعة الطبيّة المستمرة علاوة على معالجة الأثر النفسي الذي يلحق بهم.
حقوق مهدورة
من جانبه، أكد مدير المؤسسة الفلسطينية لدراسات حقوق الإنسان جهاد عوض الله، أن الاحتلال حرم جميع الأطفال وبخاصة من بُترت أطرافهم من حقوقهم الإنسانية والقانونية التي وُفِرت لهم بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقية حقوق الطفل، ومن ضمنها الحق في الرعاية الصحية وإعادة التأهيل وكذا الحصول على علاج طبي مناسب، بما في ذلك العمليات الجراحية والأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي.
وبيّن عوض الله، خلال حديثه لـ"جسور بوست"، أن الأطفال الذين بُترت أطرافهم خلال الحرب بحاجة ماسة إلى الدعم والعلاج النفسي المستمر للتعامل مع الصدمة التي ألمت بهم، فضلاً عن إعادة التأهيل البدني والاجتماعي لتمكينهم من العودة إلى الحياة الطبيعية قدر الإمكان.
وإلى جانب ضمان حصول الأطفال على تعويضات أو دعم من المنظمات الدولية شدد الحقوقي الفلسطيني على أن مؤسسته تسعى حثيثًا مع جهات دولية لضمان حقهم في العدالة بما في ذلك محاسبة الاحتلال على انتهاكاته بحقهم.