الإحسان لا يصنع عدالة.. دعوة لتحول التكافل الرمضاني إلى سياسات دائمة

الإحسان لا يصنع عدالة.. دعوة لتحول التكافل الرمضاني إلى سياسات دائمة
التكافل الرمضاني - أرشيف

يبرز شهر رمضان كفترة استثنائية لتعزيز قيم التكافل الاجتماعي والتضامن الإنساني، حيث تتزايد الحملات الخيرية والمبادرات الإنسانية لدعم الفقراء والمحتاجين. 

وفي ظل ارتفاع معدلات الفقر في عدد من الدول الإسلامية، يشكل شهر رمضان فرصة سانحة لتكثيف الجهود الرامية إلى تخفيف معاناة الفئات الهشة عبر تقديم المساعدات الغذائية والمساهمات المالية.

وتشير بيانات منظمة الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية إلى أن نسبة الفقر في الدول الإسلامية تبلغ نحو 24%، ما يعادل 400 مليون شخص، ومع ذلك، يسجل شهر رمضان ارتفاعًا ملحوظًا في حجم التبرعات، حيث تسهم المجتمعات والمؤسسات الخيرية في تخفيف العبء الاقتصادي عن المحتاجين.

وأفادت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في المملكة العربية السعودية بأن التبرعات خلال شهر رمضان 2023 بلغت نحو 5 مليارات ريال سعودي (1.33 مليار دولار أمريكي)، بزيادة 15% عن العام السابق، وتركزت هذه التبرعات على دعم الأسر الفقيرة، توفير وجبات إفطار، وتقديم مساعدات نقدية وعينية.

وفي تركيا، رغم الأزمات الاقتصادية، كشفت مؤسسة "هيئة الإغاثة الإنسانية" (IHH) عن تسجيل 1.5 مليار ليرة تركية (80 مليون دولار) في التبرعات الرمضانية لعام 2023، بزيادة 25%، مع توجيهها لدعم الأسر الفقيرة وإقامة موائد الإفطار.

وفي إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان، أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية أن التبرعات الرمضانية لعام 2023 بلغت 3 تريليون روبية إندونيسية (200 مليون دولار)، بزيادة 18%، ما أسهم في إفطار 15 مليون شخص يوميًا.

رمضان والتكافل الاجتماعي

تبرز هذه الإحصاءات دور شهر رمضان في تعزيز روح التضامن الاجتماعي، حيث يسهم الأفراد والمؤسسات الخيرية في تخفيف وطأة الفقر عبر مبادرات تشمل توزيع الوجبات الغذائية، تقديم الدعم المالي، وتنظيم موائد إفطار جماعية. 

وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي تشهدها العديد من الدول، بات رمضان يشكل محطة إنسانية أساسية لتجديد قيم العطاء والمساعدة.

الإحسان الموسمي

قالت خبيرة حقوق الإنسان، الفلسطينية أميرة شتا، إن المجتمعات في هذا الشهر تتحول لا سيما تلك التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، إلى ساحات للتكافل والمساندة، حيث يجد الفقراء والمحتاجون أنفسهم في قلب الاهتمام المجتمعي، بعد أن يكونوا في معظم أيام السنة على الهامش، هذا التحول ليس مجرد استجابة عاطفية لموسم ديني، بل هو تأكيد على أن العدالة الاجتماعية والحق في العيش الكريم ليسا مِنّةً من أحد، بل حقًا أصيلًا تفرضه القوانين والمواثيق الدولية.

وتابعت شتا، في تصريحات لـ"جسور بوست": المعضلة الكبرى أن هذا التضامن، رغم كونه ضروريًا ومؤثرًا، يظل مؤقتًا، يتجلى في رمضان بأبهى صوره، لكنه يتلاشى بمجرد انتهاء الشهر، ليعود الفقراء إلى معاناتهم المعتادة، بينما تستمر الفجوة الطبقية في الاتساع.. إن الاقتصار على الإحسان الموسمي دون العمل على إصلاح الهياكل الاقتصادية والاجتماعية هو ترسيخ غير مباشر لدائرة الفقر والحرمان، وهذا يتعارض مع روح العدالة الاجتماعية التي يُفترض أن تكون دائمة وليست موسمية، ومن منظور حقوقي، فإن التضامن لا ينبغي أن يُترجم فقط إلى حملات خيرية، بل إلى سياسات مستدامة تضمن للناس حقوقهم الأساسية على مدار العام، مثل الضمان الاجتماعي، والحد الأدنى للأجور، ودعم الفئات الهشة.

وأضافت: في رمضان، يصبح الحق في الغذاء، وهو أحد الحقوق الأساسية التي يُفترض أن تكفلها الحكومات، معتمدًا على مبادرات الأفراد والمؤسسات الخيرية، في مجتمعات كثيرة، يزداد الاعتماد على موائد الرحمن، والطرود الغذائية، والتبرعات المالية، وهذا يعكس اختلالًا في دور الدولة، التي يُفترض أن تضمن هذا الحق عبر سياسات اقتصادية عادلة، وليس من خلال ترك الفقراء ليعتمدوا على إحسان الآخرين ورغم أن هذه المبادرات تخفف المعاناة، إلا أنها في جوهرها لا تقدم حلًا جذريًا لمشكلة الفقر، بل تعزز ثقافة الاتكالية بدلًا من أن تعزز ثقافة التمكين، وهو ما يتعارض مع مفهوم الكرامة الإنسانية.

وقالت شتا، إنه في بعض الدول، يتحول رمضان إلى مناسبة لاستعراضات سياسية تستخدم التضامن الاجتماعي كأداة لتلميع صورة السلطات، حيث تُضخ الأموال في مشاريع خيرية ذات طابع دعائي، دون أن تكون هناك استراتيجيات حقيقية لحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية هذا الاستخدام السياسي للعمل الخيري يفرغه من محتواه الحقيقي، ويجعل الفقراء وقودًا لمشاريع السلطة بدلًا من أن يكونوا المستفيدين الحقيقيين، في المقابل هناك دول أخرى تعمل بشكل منهجي على تعزيز التكافل الاجتماعي كسياسة دولة، لا كمبادرة موسمية، عبر دعم الجمعيات الخيرية، وتقديم الإعانات الدائمة، وفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء لضمان إعادة توزيع الثروة، وهو ما ينسجم مع مبدأ المساواة وعدم التمييز الذي تكرسه المواثيق الدولية.

وعن فلسطين، قالت: يعاني المجتمع من الاحتلال والحرمان الاقتصادي المزمن، ويُظهر رمضان بوضوح الفجوة بين العمل الخيري والعمل الحقوقي، فالسبب الجذري للفقر هو الاحتلال وسياساته التمييزية والتدمير والقتل، وهنا يأتي البعد الحقوقي ليؤكد أن التضامن الاجتماعي، رغم أهميته، لا يمكن أن يكون بديلًا عن العدالة السياسية والاقتصادية، لا يكفي أن يتم تقديم المساعدات للفلسطينيين في رمضان، بينما يُحرمون طوال العام من حقوقهم الأساسية، مثل حرية التنقل، والعمل، والملكية، والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية دون قيود الاحتلال إن جوهر التضامن الحقيقي لا يقتصر على المساعدات، بل يمتد إلى الدفاع عن حقوق الفئات المستضعفة، وضمان ألا يكون الفقر قدرًا مفروضًا عليهم.

وأتمت: رمضان هو فرصة حقيقية لاستنهاض الوعي المجتمعي والحقوقي، لكنه يجب ألا يكون مجرد استراحة إنسانية قصيرة في ظل واقع غير عادل التضامن الاجتماعي الحقيقي لا يكون فقط في توفير الطعام للفقراء خلال شهر، بل في ضمان ألا يكون هناك فقراء أصلًا، وألا يكون الوصول إلى الحقوق الأساسية مرهونًا بمواسم الخير، بل مكفولًا بقوة القانون والعدالة.

تضامن في مواجهة فقر دائم

وفي السياق، شارك نجيب عبد الحميد، يمني، تجربته قائلا، إن رمضان في اليمن ليس مجرد شهر صيام وعبادة، بل هو موسم تتجلى فيه أسمى معاني التضامن الاجتماعي والتكافل بين الناس، رغم ما يعانيه البلد من حرب وأزمات اقتصادية طاحنة، في هذا الشهر، يبدو وكأن روح اليمنيين تعود إلى جذورها الحقيقية، حيث يصبح الإيثار جزءًا من الحياة اليومية، رغم الفقر والجوع الذي ينهش ملايين الأسر، في الأحياء الفقيرة التي تتسع رقعتها يومًا بعد يوم، تمتد موائد الإفطار الجماعية على الطرقات وفي المساجد، حيث لا يُسأل الفقير عن حاله، فالجميع يعرفون أن الحاجة أصبحت قاسمًا مشتركًا بينهم.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست": تجربة العيش في اليمن خلال رمضان تعني رؤية مشاهد متناقضة، فمن ناحية هناك عائلات بالكاد تجد ما تسد به رمقها، ومن ناحية أخرى، هناك مظاهر سخاء يندر أن تجدها في بقية شهور السنة التجار وأصحاب المحلات يتنافسون في تقديم السلع بأسعار رمزية أو مجانية في بعض الأحيان، والمخابز الخيرية التي ظهرت في المدن الكبرى تقدم الخبز بالمجان لآلاف الأسر، ومع ذلك، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: لماذا يجب أن ينتظر الفقراء قدوم رمضان حتى يشعر بهم الآخرون؟ لماذا لا يكون هذا التضامن نهجًا مستمرًا؟

واسترسل قائلا: في الأرياف، حيث تضيق الحياة بساكنيها، يبرز رمضان كمناسبة استثنائية يعيد فيها الناس إحياء عادات قديمة قائمة على التعاون المشترك الأسر تتقاسم ما لديها من قوت، والجيران يطرقون أبواب بعضهم البعض ليسألوا إن كان أحدهم بحاجة إلى شيء، ليس من باب التفاخر، ولكن لأن العيش في ظل الأزمات علّم الجميع أن البقاء ممكن فقط عندما يكون الكتف على الكتف، ومع ذلك حتى هذا التضامن لم يعد كافيًا، لأن الحاجة فاقت قدرة الأفراد، وبات الحل الحقيقي يكمن في سياسات عادلة تضمن حياة كريمة للجميع، وليس فقط صدقات موسمية تخفف الألم مؤقتًا.

وأشار إلى أن رمضان يكشف الوجهين المتناقضين للحياة في اليمن؛ فمن جهة، هناك قصص رائعة عن التراحم، ومن جهة أخرى، هناك واقع قاسٍ يفضح حجم التفاوت الاجتماعي.. فالمبادرات المجتمعية والجمعيات الخيرية تحاول سد الفجوات، لكن ذلك لا يكفي عندما يكون الفقر والبطالة هما القاعدة، وليس الاستثناء، صحيح أن رمضان يشحذ الهمم ويدفع الناس للعطاء، لكن المشكلة تكمن في غياب الدولة كجهة راعية تضمن ألا يكون هذا العطاء مجرد حلول مؤقتة لا تغير من واقع الفقر شيئًا.

وأوضح: في الأسواق، يمكن رؤية حجم المعاناة بوضوح؛ الأسعار ترتفع مع قدوم رمضان بدل أن تنخفض، وهو أمر يبدو عبثيًا في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر، ومع ذلك لا يتوقف اليمنيون عن ممارسة طقوسهم الرمضانية بحب، وكأنهم يرفضون الاستسلام لليأس، تجدهم يتبادلون التمر والماء عند الغروب، يرسلون الأطباق لبعضهم البعض، ويحرصون على أن يشعر كل فرد في المجتمع بأنه ليس وحيدًا في معركته اليومية من أجل البقاء.

وقال إن المفارقة الحزينة هي أن هذا التضامن العفوي، رغم جماله، يعكس غياب العدالة الاجتماعية، رمضان يجب أن يكون فرصة لتعزيز حلول طويلة الأمد للفقر، وليس مجرد مناسبة يغتني فيها التجار على حساب الفقراء الذين ينتظرون الإحسان. 

وأتم: المجتمع اليمني أثبت مرارًا أن لديه قدرة هائلة على التكاتف في الأزمات، لكن هذا التكاتف لا يجب أن يكون بديلاً عن السياسات الاقتصادية العادلة، رمضان يذكّر الجميع بواجبهم تجاه الفقراء، لكن الفقراء بحاجة إلى أكثر من تذكير موسمي، هم بحاجة إلى ضمانات دائمة للعيش الكريم، حتى لا يظل شهر الرحمة مجرد استراحة مؤقتة من قسوة الحياة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية