في ظل الجوع وسوء التغذية.. ارتفاع الأسعار يسرق موائد الفقراء في رمضان

في ظل الجوع وسوء التغذية.. ارتفاع الأسعار يسرق موائد الفقراء في رمضان
شهر رمضان - أرشيف

يواجه العالم أزمة غذائية متفاقمة مع استمرار الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، ما يُشكل تحديًا إنسانيًا يؤثر في حياة ملايين الأشخاص، خاصة الفقراء الذين يجدون صعوبة في تأمين وجباتهم اليومية، ولا تقتصر هذه الأزمة على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى أبعاد حقوقية وإنسانية، حيث يُعد الحصول على الغذاء حقًا أساسيًا يجب حمايته.

وأفاد تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن أسعار المواد الغذائية العالمية ارتفعت بنسبة 30% خلال العام الماضي، وهو أعلى معدل منذ عقد. 

ويعزو التقرير هذا الارتفاع إلى اضطرابات سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كوفيد-19، إضافة إلى التغيرات المناخية التي أثرت في الإنتاج الزراعي، والنزاعات الدولية التي قللت من صادرات الحبوب والزيوت النباتية.

وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أسعار المواد الغذائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سجلت ارتفاعًا بنسبة 25% خلال العام الماضي، ما زاد من الضغوط على الأسر الفقيرة التي تُنفق جزءًا كبيرًا من دخلها على الغذاء، ما يحدّ من قدرتها على تلبية احتياجاتها الأساسية الأخرى، مثل التعليم والصحة.

عبء اقتصادي يرهق الفقراء

في مصر، حيث يعيش 30% من السكان تحت خط الفقر، تُشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن الأسر الفقيرة تُنفق أكثر من 50% من دخلها على الغذاء. 

ومع ارتفاع الأسعار بنسبة 20% خلال العام الماضي، أصبح تأمين الغذاء اليومي تحديًا كبيرًا، ولا سيما خلال شهر رمضان، حيث يزداد الطلب على المواد الغذائية وسط تراجع القدرة الشرائية.

في لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تُظهر بيانات برنامج الأغذية العالمي أن 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 400% خلال العامين الماضيين. 

هذا الارتفاع جعل من تأمين وجبات الإفطار والسحور خلال رمضان تحديًا يوميًا للأسر الفقيرة، حيث أصبحت -حتى المواد الأساسية مثل الخبز والأرز والزيت- بعيدة المنال. وتعتمد أسر عدة على المساعدات الإنسانية وسط استمرار الأزمة الاقتصادية.

أزمة إنسانية حادة

يعيش اليمن أوضاعًًا مأساوية بسبب الحرب المستمرة، إذ تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 20 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي، فيما ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 50% خلال العام الماضي. 

وتعتمد أسر عدة على وجبات بسيطة مكونة من الخبز والشاي، ما يزيد من خطر سوء التغذية والأمراض المرتبطة به.

ويُعدّ الحق في الغذاء حقًا أساسيًا نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أكده العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي يلزم الدول بضمان الأمن الغذائي لمواطنيها، ومع ذلك، ما تزال هذه الحقوق بعيدة المنال لملايين الأشخاص في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وارتفاع الأسعار.

جهود الإغاثة لا تكفي

تقوم المنظمات الإغاثية بدور محوري في تخفيف الأزمة، حيث وزّع "بنك الطعام المصري" أكثر من 10 ملايين وجبة خلال رمضان 2023، فيما تقدم منظمات مثل "برنامج الأغذية العالمي" و"جمعية العون المباشر" مساعدات غذائية في لبنان واليمن، لكنها تبقى غير كافية مقارنة بحجم الأزمة.

في ظل الأزمة، يشهد قطاع التجزئة تحولًا نحو التسوق الإلكتروني، حيث قُدّرت قيمة مبيعات المواد الغذائية عبر الإنترنت بنحو 3 مليارات دولار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال رمضان، وفقًا لشركة "بي تبس".

وفي السعودية، بلغت المبيعات الإلكترونية خلال رمضان 2023 نحو 1.5 مليار دولار، ما يعكس تغيير أنماط الاستهلاك في ظل التطورات التكنولوجية.

وتشكل أزمة الغذاء تحديًا عالميًا يتطلب استجابات سياسية واقتصادية فعالة لضمان حق الجميع في الحصول على غذاء كافٍ وآمن. ومع تزايد أعداد المحتاجين، يظل التعاون الدولي ضروريًا لإيجاد حلول مستدامة لهذه الأزمة المتفاقمة.

حق الإنسان في الغذاء

قالت خبيرة حقوق الإنسان اليمنية، حورية مشهور، إنه وفي كل عام، ومع اقتراب شهر رمضان، يتجدد الحديث عن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وتأثيرها المباشر في قدرة الفقراء والمحتاجين على تأمين الحد الأدنى من الغذاء، ويتفاقم هذا الوضع في ظل ارتفاع الأسعار المستمر، ما يحرم ملايين الأسر من وجبات متوازنة، سواء في الإفطار أو السحور، في وقتٍ يُفترض فيه أن يكون هذا الشهر مناسبةً لتعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، فالحق في الغذاء ليس رفاهيةً، بل هو حقٌ أساسي من حقوق الإنسان.

وتابعت مشهور، في تصريحات لـ"جسور بوست"، يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في مادته الخامسة والعشرين، أن لكل فرد الحق في مستوى معيشي يكفل له ولأسرته الصحة والرفاه، بما في ذلك الغذاء الكافي، كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يوضح أن الدول ملزمة بضمان الأمن الغذائي لمواطنيها، وعدم ترك أي شخص يعاني من الجوع، ومع ذلك، نجد أن الواقع بعيد كل البعد عن هذه المبادئ، حيث يتزايد عدد الأفراد الذين لا يستطيعون تأمين غذاءٍ كافٍ بسبب ارتفاع الأسعار، وانخفاض القدرة الشرائية، وضعف شبكات الحماية الاجتماعية، ما يحدث الآن ليس مجرد أزمة اقتصادية مؤقتة، بل هو إخلال واضح بالتزامات الدولة تجاه مواطنيها الأكثر ضعفًا.

واسترسلت، الفقر ليس مسؤولية الأفراد، بل هو نتيجة تراكمات لسياسات اقتصادية غير عادلة، جعلت الفئات الفقيرة أكثر عرضة للتأثر بالأزمات. إن مجرد تقديم مساعدات غذائية موسمية في رمضان، رغم أهميتها، لا يعالج جذور المشكلة، بل يُكرّس نمطًا من التبعية لا يضمن كرامة الإنسان ولا يحقق العدالة الاجتماعية، يجب أن يكون التركيز على سياسات مستدامة تضمن للفقراء والمحتاجين إمكانية الوصول إلى غذاءٍ كافٍ على مدار العام، وليس فقط خلال مواسم الخير والتبرعات، فالعدالة الحقيقية تقتضي إصلاحًا هيكليًا لمنظومة الدعم، وضمان تسعيرٍ عادل للسلع الأساسية، مع رقابة صارمة تمنع التلاعب بالأسعار.

وقالت إن ما نشهده اليوم ليس فقط ارتفاعاً في الأسعار، بل تآكلًا في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية، عندما يصبح تأمين وجبة الإفطار أو السحور عبئًا على الفقراء، فهذا يعني أن هناك خللًا جوهريًا في توزيع الموارد والسياسات الاقتصادية، الدولة ليست مسؤولة فقط عن إتاحة السلع الغذائية في الأسواق، بل عن ضمان وصولها إلى الجميع بأسعار تتناسب مع مستويات الدخل، ومع تصاعد التضخم وتراجع قيمة العملة، بات الفقراء يُستنزفون أكثر، في حين تظل القرارات الاقتصادية عاجزة عن توفير حلول عملية تقلل من تأثير هذه الأزمة في الفئات الأكثر ضعفًا.

وأتمت، عندما يتحول الحصول على الغذاء إلى معركة يومية يخوضها الفقراء، يصبح الحديث عن حقوق الإنسان مجرد شعارات جوفاء، الفقر والجوع ليسا قدراً محتوماً، بل هما نتيجة قرارات سياسية واقتصادية يمكن إصلاحها إذا وُجدت الإرادة الحقيقية لذلك، ضمان حق الجميع في الغذاء الكافي ليس فقط التزامًا قانونيًا، بل هو ضرورة لضمان الاستقرار الاجتماعي والكرامة الإنسانية للجميع.

ارتفاع الأسعار وصحة الفقراء

قالت الدكتورة صفاء توفيق، أستاذ التغذية بالمعهد القومي للتغذية، إن الغذاء يُعد حقًا أساسيًا لا يمكن المساس به، لكن في ظل الارتفاع الحاد للأسعار، يجد الفقراء والمحتاجون أنفسهم أمام معركة يومية لتأمين وجبات الإفطار والسحور خلال شهر رمضان، وهو ما يشكل خطرًا جسيمًا على صحتهم، ليس فقط بسبب الجوع، ولكن أيضًا بسبب سوء التغذية الذي يؤدي إلى تداعيات صحية طويلة الأمد.

وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، عند الحديث عن التغذية خلال شهر رمضان، لا يمكن إغفال أهمية وجبتَي الإفطار والسحور في الحفاظ على صحة الجسم، وتعويض ما يفقده من عناصر غذائية خلال ساعات الصيام الطويلة، غير أن الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم عامًا بعد عام، تجعل من تأمين وجبة غذائية متكاملة تحديًا يوميًا للملايين من الفقراء، الذين يضطرون إلى اللجوء إلى خيارات غير صحية بسبب محدودية إمكانياتهم، ففي كثير من الحالات، يصبح الخبز والشاي أو بعض الأطعمة النشوية التي تفتقر إلى البروتينات والفيتامينات والمعادن، هي أساس موائد الإفطار والسحور، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلات سوء التغذية وأمراض نقص العناصر الغذائية، مثل فقر الدم وهشاشة العظام وضعف المناعة.

وأشارت إلى أن الحرمان من الغذاء الكافي خلال رمضان، يؤدي إلى نتائج صحية كارثية، خاصة عند الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل. فالأطفال الذين يعانون سوء التغذية خلال الشهر الفضيل، يكونون أكثر عرضة للالتهابات ونقص التركيز، ما يؤثر سلبًا في نموهم الجسدي والعقلي، أما كبار السن، فإن حرمانهم من الغذاء المتوازن يزيد من أخطار الإصابة بأمراض القلب والسكري، نظرًا لاضطرارهم إلى تناول أطعمة تفتقر إلى العناصر الضرورية للحفاظ على صحتهم، النساء الحوامل والمرضعات يواجهن أيضًا خطرًا مضاعفًا، حيث يؤدي نقص التغذية إلى ضعف صحة الأم والجنين.

وتابعت، لا يقتصر الأمر على الجوع فقط، بل يمتد ليشمل الاعتماد على أطعمة رخيصة وغير صحية، مليئة بالدهون المشبعة والكربوهيدرات المعالجة التي تؤدي إلى مشكلات أخرى مثل السِمنة وسوء التمثيل الغذائي وارتفاع ضغط الدم، والمفارقة أن هذه الأطعمة، رغم أنها قد تعطي إحساسًا مؤقتًا بالشبع، إلا أنها تفتقر إلى المغذيات الأساسية التي يحتاجها الجسم، ما يجعل الفقراء أكثر عرضة للأمراض المزمنة، ويزداد الأمر سوءًا عندما يضطر البعض إلى تناول أطعمة رديئة أو منتهية الصلاحية، ما يعرضهم لخطر التسمم الغذائي والعدوى البكتيرية.

وقالت إن غياب العدالة الغذائية في رمضان يفضح خللًا خطرًا في السياسات الاقتصادية والصحية، حيث تترك الحكومات ملايين الفقراء تحت رحمة الأسواق التي ترفع الأسعار بلا رقابة، في حين يفترض أن يكون دور الدولة هو ضمان الحق في الغذاء الصحي والمتوازن للجميع، فبدلًا من أن يكون رمضان شهرًا لتعزيز التكافل الاجتماعي وتحقيق التوازن الغذائي، يتحول إلى موسم للحرمان وسوء التغذية، ما يقوض مبدأ المساواة الصحية الذي تنادي به منظمة الصحة العالمية.

وأتمت، لمواجهة هذه الأزمة، لا بد من سياسات حكومية عاجلة تضمن الحد من ارتفاع الأسعار، وتعزز الدعم الغذائي للفئات الأكثر احتياجًا، سواء من خلال المساعدات المباشرة أو دعم المنتجات الأساسية. كما يجب على المؤسسات الصحية ومنظمات المجتمع المدني العمل على حملات توعية حول أهمية التغذية السليمة، حتى في ظل الإمكانيات المحدودة، لتجنب الوقوع في فخ سوء التغذية والأمراض المرتبطة به، فلا يمكن اعتبار الغذاء رفاهية، بل هو أساس الصحة والحياة الكريمة، وحرمان الفقراء منه هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان لا يمكن تجاهله أو تبريره.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية