الصحفيون في مناطق الصراع.. شهود يُحاكمون والحقيقة تُدفن تحت الركام
الصحفيون في مناطق الصراع.. شهود يُحاكمون والحقيقة تُدفن تحت الركام
انفجرت عبوة ناسفة في صباح يوم مشؤوم من عام 2018 قرب الصحفي فيصل الذبحاني، مراسل قناة الغد الإخبارية في اليمن، في حين كان يُعد تقريراً عن معاناة المدنيين في مدينة الحديدة.. لم تكن تلك اللحظة مجرد حادث عرضي، بل كانت بداية فصل جديد في مأساة الصحفيين الذين يُغطّون الحرب من قلب الجحيم اليمني.. قُتل زميله في الحال، في حين نجا فيصل بأعجوبة، لكنه خرج بجروح بالغة وآلام نفسية مستمرة، دون أن يحظى بأي دعم ملموس من المنظمات الدولية التي اكتفت بتوثيق الواقعة في تقاريرها السنوية.
وأعلن الصحفي فيصل الذبحاني أنه تلقى اتصالات من منظمات كاليونسكو ومراسلون بلا حدود، لكنه لم يتلقَ سوى الوعود والتوثيق، مضيفاً: "اضطررت لبيع سيارتي لتغطية نفقات علاجي"، وتعكس هذه الشهادة مأساةً مشتركة لدى معظم الصحفيين اليمنيين الذين تعرضوا للانتهاك أو الإصابة دون أي تدخل حقيقي من الجهات الدولية المعنية، ففي دراسة أجرتها "شبكة الصحفيين اليمنيين" عام 2022، ظهر أن 80% من الصحفيين المعتدى عليهم لم يتلقوا أي نوع من الدعم المالي أو القانوني.
تجاهلت المنظمات الدولية، مثل اليونسكو ولجنة حماية الصحفيين، تطبيق البرامج التي تعلن عنها، ففي تقرير اليونسكو لعام 2023، ورد أنها دربت 120 صحفياً يمنياً على السلامة الرقمية، لكنها لم تقدم أي مساعدة فعلية للضحايا، لم تتجاوز المساعدات المباشرة للضحايا 2% من التمويل المرصود لحماية الصحفيين، ما يفضح الهوة بين الأقوال والأفعال، كما لم تفتح محكمة الجنايات الدولية أي تحقيق في الجرائم ضد الصحفيين باليمن رغم الأدلة الدامغة، ما يطرح تساؤلات حول جدية النظام الدولي في حماية حرية الصحافة.
تعمّقت الأزمة مع الصحفيين المستقلين، الذين لا ينتمون إلى مؤسسات إعلامية كبرى. إذ صرحت الصحفية العراقية ندى الربيعي: "العمل المستقل أشبه بالانتحار البطيء، إذ يتم اتهامنا بالتجسس من كل الأطراف"، وبينت إحصاءات اتحاد الصحفيين العرب لعام 2023 أن 70% من الصحفيين الذين قتلوا في النزاعات كانوا مستقلين، ما يعكس مدى هشاشة وضعهم وتعرضهم للتهميش، سواء من الأطراف المتنازعة أو من الإعلام الدولي.
ازدواجية في التعامل
فاقم الإعلام العالمي من التمييز من خلال انتقائية تغطيته. فقد حظيت قضية مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة بتغطية واسعة كونها أمريكية، في حين تجاهلت وسائل الإعلام حالات مشابهة لصحفيين فلسطينيين مثل خالد النجار، الذي اختفى في غزة دون أي تغطية تُذكر لأنه صحفي مستقل، وبحسب دراسة لجامعة كولومبيا، فإن 78% من التغطيات الإعلامية للانتهاكات ضد الصحفيين ركزت على الصحفيين الغربيين أو من يعملون في مؤسسات غربية.
وسلطت شهادات صحفيين مثل عمر عبد الرحمن، الذي نجا من التعذيب في سوريا، الضوء على التمييز في العدالة الدولية. إذ تساءل: "لماذا تُفتح القضايا في أوكرانيا ويُدان صحفي روسي، في حين أن اليمن وسوريا خارج دائرة الاهتمام؟"، هذا التمييز يكرّس شعوراً بالإقصاء لدى الصحفيين العرب، ويضعف الثقة بالعدالة الدولية.
وطالبت جهات حقوقية بضرورة تفعيل آليات قانونية دولية لملاحقة الجرائم ضد الصحفيين، معتمدة على مبدأ "الاختصاص العالمي" الذي يتيح محاكمة مرتكبي هذه الجرائم بغض النظر عن موقعها الجغرافي، كما اقترح خبراء إنشاء صندوق طوارئ تحت مظلة الأمم المتحدة لتقديم دعم مالي مباشر للصحفيين المتضررين، بدلاً عن الاكتفاء بالورش والتقارير.
تحديات في مناطق النزاع
أكد الصحفي حيدر عبدالكريم، المقيم حالياً في كينيا، أن الحرب تثقل كاهل الصحفيين بأعباء مضاعفة، تفوق تلك التي يتكبدها أي فاعل آخر في ميادين النزاع، ولا سيما في الدول التي تعاني من غياب الدساتير واهتزاز أسس الحكم الرشيد، مثل السودان.
وأوضح عبدالكريم في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن احتمالات تفعيل أية ضمانات دولية لحماية الصحفيين في مثل هذه البيئات تبقى ضئيلة للغاية، إذ إن أطراف النزاع أنفسهم لا يؤمنون برسالة الصحافة، بل يرون في هوية الصحفي تصنيفاً سياسياً أو انتماءً حزبياً، ما يحول القلم إلى تهمة، والكاميرا إلى جرم يُحاسب عليه.
وأشار إلى أن التوثيق لحجم الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون يمكن أن يتم عبر المنظمات الحقوقية، إضافة إلى جهود الصحفيين أنفسهم، إلا أن احتمالية توفير الحماية الفعلية تبقى محدودة، فالتحديات التي تواجه الإعلاميين ووسائل الإعلام في هذه البلدان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح أطراف الصراع؛ إذ يصبح الأمن الشخصي للصحفي وتسهيل عمله ضرورة متلازمة مع التغطية الميدانية، بحيث يغدو العمل الإعلامي مثل السير على خيط رفيع بين الحياة والموت.
وأضاف عبدالكريم، أن المؤسسات الدولية الفاعلة في مجال حماية الصحفيين لا تتعامل بميزان واحد، بل تطغى عليها الانتقائية في المواقف، فليست كل البلدان تحظى بنفس الجدية أو الفهم الدقيق لتعقيدات سياقاتها الحربية.
وشدد على أن التعامل مع الحروب يجب أن يكون حساساً لطبيعة كل نزاع، لا عبر قوالب جاهزة أو بروتوكولات موحدة. فالحرب الداخلية في السودان، مثلاً، تختلف جذرياً عن تلك التي شهدها اليمن، ما يقتضي أن تكون التدريبات المقدمة للصحفيين والتغطيات الإعلامية منبثقة من خصوصية السياق الجغرافي والثقافي لكل منطقة.
وواصل عبدالكريم حديثه، قائلاً، إن مأساة الصحفيين في مناطق النزاعات كثيراً ما تُدار بمزاجية، ترتبط بميزانيات الحماية المتاحة وبمدى اهتمام الجهات الدولية، حيث شهدنا في أزمات أخرى كاليمن وسوريا قيام منظمات دولية بعمليات إجلاء منظمة للصحفيين المعرضين للخطر، بينما حُرم صحفيو السودان من مثل هذه الجهود، وباتت المساعدات المقدمة لهم، كما وصفها، “مخجلة ولا ترقى إلى مستوى التضحيات المبذولة”.
واختتم عبدالكريم تصريحه، قائلاً، إن الصحفيين في مناطق النزاع يعيشون حياةً تشبه السير في حقل ألغام، تترصدهم الأخطار من كل صوب، في حين يبقى العالم متقاعساً عن تقديم الحماية الكافية لهم. ففي حين تُشعل الحروب النار في الأوطان، تحترق الحقيقة على ألسنة الصحفيين وهم يحاولون بكل ما أوتوا من قوة أن يكونوا شهوداً على الألم الإنساني، لا ضحاياه.