العدالة في مهب الريح.. تهديدات أمريكية تدفع مسؤولاً بارزاً بـ"الجنائية الدولية" للاستقالة
العدالة في مهب الريح.. تهديدات أمريكية تدفع مسؤولاً بارزاً بـ"الجنائية الدولية" للاستقالة
في خطوة وصفها المراقبون بـ"التهديد للعدالة الدولية"، كشف المحامي البريطاني أندرو كايلي، الذي قاد تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب في غزة، أن التهديدات السياسية الأمريكية والضغوط النفسية الشديدة دفعته إلى الاستقالة، رغم شغفه بالعدالة الدولية.
ووصف كايلي الأشهر الأخيرة في المحكمة بأنها "الأصعب في حياته"، مشيرًا إلى أن التحقيق الذي قاده مع المحامية الأمريكية بريندا هوليس تضمن جمع شهادات من رهائن إسرائيليين احتجزوا في أنفاق، ومشاهدة لقطات مروعة لقتل فتيات إسرائيليات، بالإضافة إلى مقابلات مع أطفال فلسطينيين تعرضوا لإصابات جسدية بالغة.
وعمل كايلي رفقة المدعي العام كريم خان، الذي عين عام 2021 بعد رحيل سابقتَه فاتو بنسودا، وخلال الإشراف على تحقيقات تخص الفلسطينيين، شعر كايلي بأنه بات تحت رحمة "تهديد مباشر بفرض عقوبات من الولايات المتحدة"، مما هدد قدرته على السفر أو إجراء معاملات مالية بسبب ارتباط عائلته المقيمة في أمريكا.
وهذه الخطوة أتت في سياق يتسع فيه نطاق العقوبات الأمريكية على موظفي ICC، في أعقاب إصدار أمر تنفيذي رئاسي مطلع 2025 يشمل تقييد السفر وتجميد الحسابات للأفراد المتورطين في قرارات لا ترضى عنها واشنطن.
وتمثل استقالة كايلي ضربة مباشرة لفعالية المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما في ما يتعلق بنقص الكفاءات، إذ تعري خسارة مستشار بارز مثل كايلي ضعف تحمل المحكمة للضغوط السياسية، إلى جانب عرقلة التحقيقات، حيث تتعرض ملفات مثل التحقيق في فلسطين لتأخير أو شلل مؤقت بسبب خروج فريق التحقيق الرئيسي.
قلق بشأن استقلالية العدالة
وجاءت هذه الأزمة في وقت حرج للمحكمة، إذ تواجه انتقادات بتهم انتقائية في متابعة القضايا، خاصة تلك المرتبطة بالدول الغربية أو الأمريكان، ووصفت وسائل إعلام ونشطاء حقوقيون، التهديد بالعقوبات بأنه "ضرب لاستقلالية العدالة الدولية"، محذرين من أن المحكمة قد تنزلق نحو ضعف السلطة أمام الضغوط القومية.
ورغم الأزمات، يتطلع الباحثون عن العدالة الدولية إلى تعزيز دور المحكمة الجنائية الدولية بخفض العنف ضد المدنيين في عدة مناطق تعيش نزاعات وصراعات وحروب، لا سيما في تأثيرها على ردع الحكومات والعسكريين الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية.
لكن قدرة المحكمة على استكمال تحقيقاتها تعتمد بشكل حاسم، على دعم سياسي ودبلوماسي من الدول الأعضاء، وقدرتها على حماية موظفيها من الضغوط الخارجية فيما تشكل استقالة كايلي جرس إنذار خطيرا أمام المحكمة الجنائية الدولية، حيث تدعو إلى تأمل عميق في قوتها واستقلالها عن النفوذ السياسي، وخصوصًا النفوذ الأمريكي.
ومع تصاعد التهديدات، تُطرح أمام المجتمع الدولي أسئلة جوهرية: هل يمكن للمحكمة البقاء كضامن للعدالة الدولية؟ وهل ستتحول الضغوط إلى فرصة لإصلاح الآليات القانونية، وتعزيز التمويل، وتكوين تنسيق دولي يحمي قضاة ومحققين من المكائد السياسية؟
محكمة دولية مستقلة
والمحكمة الجنائية الدولية، المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court - ICC) هي أول محكمة دولية دائمة مستقلة أنشئت خصيصًا لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي، وهي: جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان (التي أضيفت لاحقًا إلى اختصاصها).
وتأسست المحكمة بموجب "نظام روما الأساسي" الذي تم اعتماده في 17 يوليو 1998، ودخل حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002 بعد أن صادقت عليه أكثر من 60 دولة، وتقع مقرها في مدينة لاهاي بهولندا، وهي تعمل بشكل مستقل عن الأمم المتحدة، وإن كان هناك تعاون بين الجهتين.
وتختص بمحاكمة الأفراد فقط وليس الدول أو المنظمات، ولا تمارس اختصاصها إلا في حالتين، وهما إذا كانت الدولة المتهمة طرفًا في "نظام روما الأساسي"، وإذا أحال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القضية إلى المحكمة، بهدف مكافحة الإفلات من العقاب، والمساهمة في تحقيق السلام والعدالة الدولية، من خلال محاكمة المسؤولين عن أخطر الجرائم التي تهدد الإنسانية.
ضغوط غير مسبوقة
أعلن الخبير في القانون الدولي الإنساني الدكتور محمود الحنفي، أن الاستقالة المفاجئة للمحامي البريطاني أندرو كايلي، وهو أحد أبرز المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، من منصبه كمستشار للتحقيقات، تأتي في سياق متوتر يبرز التحديات التي تواجه المحكمة في أداء مهمتها وسط ضغوط سياسية غير مسبوقة.
وأكد الحنفي، الذي يشغل منصب مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن استقالة كايلي تمثل علامة بارزة تعكس حجم الصعوبات التي تواجهها العدالة الدولية في ظل محاولات إضعاف استقلالية المحكمة الجنائية الدولية.
وأوضح الحنفي أن كايلي كان يشرف على ملفات حساسة تتعلق بالتحقيق في جرائم محتملة ارتكبت عقب أحداث 7 أكتوبر 2023، والتي تعرف إعلامياً بـ"طوفان الأقصى"، مضيفاً: "وفق تقارير إعلامية بريطانية رفيعة المستوى، تعرض كايلي لتهديدات مباشرة عبر الهاتف يعتقد بأنها مرتبطة بجهات أمريكية، ما خلق حالة من التوتر والضغط النفسي دفعته إلى اتخاذ قرار الانسحاب حفاظاً على سلامته وسلامة عائلته التي تقيم في الولايات المتحدة".
وأضاف: "هذه الاستقالة تكشف عن واقع مؤلم في ساحة العدالة الدولية، حيث يعرض المحققون لمضايقات سياسية وقانونية تضعف من قدرتهم على متابعة قضايا ذات طابع حساس سياسياً، وتخلق بيئة عمل مهددة بالترهيب والضغط، مشيراً إلى أن ذلك يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة بشأن مدى استقلالية المحكمة وقدرتها على إنفاذ القانون الدولي في مواجهة القوى الكبرى.
وأشار الحنفي إلى أن المحكمة تواجه "هجمة غير مسبوقة من بعض الدول، التي تسعى إلى عرقلة عملها عبر استخدام آليات غير قانونية مثل العقوبات الاقتصادية والتهديدات القانونية ضد موظفيها"، مشدداً على أن هذه الممارسات تهدد شرعية المحكمة وتعرقل جهودها في مكافحة الإفلات من العقاب.
ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لتوفير الحماية القانونية والسياسية للمحققين والقضاة في المحكمة الجنائية الدولية، وضمان دعمهم بكل الوسائل الممكنة، حفاظاً على نظام العدالة الدولية الذي يعوّل عليه في تحقيق السلام والأمن العالميين.
ومضى أستاذ القانون الدولي الإنساني قائلاً: "لا يمكن للعدالة أن تنتصر دون استقلالية حقيقية للمؤسسات الدولية، وهذا يتطلب تحالفاً دولياً قوياً يصدّ كل محاولات التدخل السياسي في عمل المحكمة".
تقويض خطير للقضاء الدولي
ومن جانبه، أعرب خبير القانون الدولي الدكتور عبد المجيد مراري عن بالغ قلقه واستنكاره إزاء الضغوط السياسية والتهديدات الأمنية التي تعرض لها العاملون في المحكمة الجنائية الدولية، والتي أدت مؤخرًا إلى استقالة المحامي البريطاني البارز أندرو كايلي من مهامه.
وفي تصريح لـ"جسور بوست" قال مراري، الذي يشغل مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة "إفدي" الدولية، إن هذه الممارسات تشكل انتهاكا صارخا لمبادئ العدالة الدولية وتقويضا خطيرا لاستقلال القضاء الدولي، كما أنها تبعث رسالة مقلقة مفادها أن ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية قد تواجه بالعقاب والترهيب بدلاً من الالتزام بالقانون والعدالة.
وأكد أهمية الرفض القاطع لأي محاولات لتسييس عمل المحكمة أو التدخل في مهامها، وضرورة تمكين المحكمة من أداء دورها بشكل مستقل وفعال دون ضغوط أو تهديدات، فضلا عن أهمية حماية جميع العاملين في المحكمة من أي شكل من أشكال الانتقام أو الترهيب.
ودعا عبد المجيد مراري المجتمع الدولي إلى التصدي الفوري لهذه التهديدات، وضمان بقاء المحكمة الجنائية الدولية كمؤسسة مستقلة قادرة على تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة، مهما كانت هوياتهم أو مواقعهم، قائلا: "العدالة لا تُحقق تحت الضغط، بل تصان بالحماية والاستقلال".
وستظل استقالة أندرو كايلي علامة بارزة في مسيرة المحكمة الجنائية الدولية، تعكس مدى التحديات والضغوط التي تواجه العدالة الدولية في ظل الصراعات السياسية المتشابكة، وتدق ناقوس الخطر لضرورة حماية استقلالية المحكمة ودعم محققيها هو السبيل الوحيد لضمان استمرارها في أداء مهمتها النبيلة، وتحقيق العدالة للمظلومين حول العالم دون خوف أو محاباة.