تحذيرات أممية ودولية من اندلاع موجة عنف جديدة في سوريا وسط هشاشة المرحلة الانتقالية

على وقع تصاعد العنف الطائفي

تحذيرات أممية ودولية من اندلاع موجة عنف جديدة في سوريا وسط هشاشة المرحلة الانتقالية
سوري يحمل علم بلاده الجديد

بينما تخطو سوريا عامها الأول بعد إسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تشهد البلاد سلسلة من التحديات الحقوقية والأمنية المتصاعدة، وسط دعم دولي، خاصة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لجهود إعادة الإعمار ورفع العقوبات، دون أن يرافق ذلك استقرار حقيقي على الأرض، خاصة في مناطق الساحل ودمشق.

ورغم دخول البلاد مرحلة سياسية انتقالية، فإن الانتهاكات لم تتوقف، بل تجددت بوتيرة مثيرة للقلق، فقد تباينت آراء خبراء سوريين في الشأن الحقوقي والعسكري في تصريحات لـ"جسور بوست" حول مستقبل البلاد، حيث يرى البعض أن سوريا انتقلت من عهد إلى آخر دون رؤية واضحة أو حلول جذرية، فيما أكد آخرون أن الدعم الدولي يشكّل فرصة للخروج من عنق الزجاجة رغم العراقيل التي يضعها بقايا النظام السابق وحلفاؤه.

وخلفت الحرب التي اندلعت عام 2011 أكثر من 350 ألف قتيل، وشردت أكثر من 12 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، ورغم إسقاط النظام السابق لم تهدأ الأوضاع؛ فخلال الأشهر الأخيرة فقط، شهدت سوريا تصاعدًا في الهجمات الطائفية والانتهاكات ضد الأقليات، وسط انهيار اقتصادي متواصل وتراجع حاد في الخدمات الأساسية.

اشتعال متجدد في الساحل

في 7 و8 مارس الماضي، شهدت مناطق الساحل السوري أعمال عنف دامية، بعد هجمات اتّهم موالون للنظام السابق بتنفيذها، ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، أسفرت المواجهات عن مقتل نحو 1700 مدني، مما دفع السلطات الانتقالية إلى إرسال تعزيزات عسكرية، وسط تحذيرات من تصاعد التوترات الطائفية.

من جانبها، أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا أن الاشتباكات الدامية، خاصة في محيط دمشق، تُنذر بتقويض فرص السلام الهشة في البلاد، لافتةً إلى مقتل أكثر من 100 شخص في مواجهات امتدت إلى محافظة السويداء، وتصاعد خطير في العنف الطائفي والتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

كما أشارت اللجنة إلى أن استمرار الغارات الإسرائيلية والخطاب التحريضي الطائفي، إضافة إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان ومحاولات تقسيم المجتمع السوري، جميعها تهدد وحدة البلاد واستقرارها.

وفي 22 يونيو، وقع هجوم دموي استهدف كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة شرق دمشق، أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص وإصابة 60 آخرين. ويُعد الهجوم هو الأول من نوعه في العاصمة منذ الإطاحة بالنظام السابق.

ورغم إعلان جماعة "سرايا أنصار السنة" مسؤوليتها عن الهجوم، فإن السلطات السورية أشارت إلى أن الجماعة مرتبطة بشكل غير مباشر بتنظيم "داعش الإرهابي"، وفي اليوم التالي، نفذت الأجهزة الأمنية عملية أسفرت عن مقتل اثنين من المشتبه بهم واعتقال ستة آخرين.

إدانة أمريكية ودولية

وأدانت الولايات المتحدة الهجمات الطائفية الأخيرة في سوريا، لا سيما ضد أبناء الطائفة الدرزية، ووصفتها بأنها "مستهجنة وغير مقبولة"، وطالبت الخارجية الأمريكية، على لسان المتحدثة تامي بروس، السلطات الانتقالية في دمشق بضرورة التحرك العاجل لحماية المدنيين ومحاسبة مرتكبي الجرائم.

وأكدت بروس أن الحكومة الجديدة "مطالبة بتعزيز الاستقرار ووقف العنف الطائفي"، محذرة من تداعيات استمرار هذه الأحداث على مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي.

وأثار الهجوم على كنيسة مار إلياس ردود فعل غاضبة في الأوساط المسيحية، حيث انتقد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوحنا يازجي، تقاعس السلطات عن حماية دور العبادة، وفي عظته قال إن "اتصال التعزية الذي أجراه رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وإن كان محل تقدير، إلا أنه لا يكفي أمام حجم الجريمة".

وأضاف: "نحن ممتنون للمكالمة، لكن ما حدث أكبر من التعازي، نحن ننتظر أفعالاً حقيقية تردع الجناة وتضمن حماية المواطنين".

تراجع الوجود المسيحي

وتُظهر الإحصائيات تراجع عدد المسيحيين في سوريا من نحو 1.5 مليون نسمة عام 2012 إلى أقل من 300 ألف نسمة عام 2022، أي من نحو 10% إلى 2.5% فقط من السكان، في مؤشر خطير على التدهور المتواصل في التنوع الديني والاجتماعي داخل البلاد.

مع مرور أكثر من ستة أشهر على إسقاط نظام بشار الأسد، لا تزال سوريا تواجه تحديات متشابكة بين تصاعد العنف الطائفي والانتهاكات الحقوقية من جهة، وتطلعات محلية ودولية لإرساء الاستقرار وبدء مسار العدالة الانتقالية من جهة أخرى، في ظل دعم دولي لا يزال دون التوقعات.

في يونيو الماضي، حذّرت نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، من أن البلاد "لا يمكنها تحمّل موجة أخرى من عدم الاستقرار"، مؤكدة أن أخطار التصعيد في مختلف المناطق السورية باتت "وشيكة وشديدة".

وفي تصريحات صحفية، وصفت رشدي اللقاءات الأخيرة للمبعوث الأممي في دمشق وبيروت بـ"البناءة"، خاصة في ما يتعلق بخطوات العدالة الانتقالية وقضية المفقودين، معتبرة أن تشكيل اللجنة العليا للانتخابات بموجب مرسوم رئاسي يمثل "خطوة إيجابية"، لكنها تتطلب متابعة دقيقة لضمان الشفافية والمشاركة الواسعة.

وشددت رشدي على مطالب النساء السوريات بالحصول على تمثيل فعّال في الحياة السياسية، والترشح للمجالس التشريعية، مؤكدة أهمية ترسيخ مفاهيم العدالة والمساءلة وحقوق الإنسان، إلى جانب إشراك منظمات المجتمع المدني في تعزيز السلم الأهلي ومكافحة خطاب الكراهية.

وفي السياق ذاته، وصفت اتفاق 10 مارس في شمال شرق سوريا بأنه "فرصة تاريخية" لاستعادة السيادة وحل بعض الملفات العالقة، ورحبت بالتقدم في قطاع التعليم، وتسهيل امتحانات الطلاب، وتبادل المعتقلين، وعودة بعض العائلات من مخيم الهول.

أزمة إنسانية متفاقمة

من جهتها، كشفت جويس مسويا، مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، عن أن ثلاثة أرباع السوريين لا يزالون بحاجة إلى مساعدات، رغم انخفاض مستوى القتال نسبياً وانفتاح البلاد جزئياً على المجتمع الدولي.

وأوضحت مسويا أن سوريا تضم 7.1 مليون نازح داخلي، إضافة إلى نصف مليون لاجئ عادوا مؤخرًا لكنهم لا يزالون يعتمدون على المساعدات، مشيرة إلى أن الذخائر غير المنفجرة قتلت 414 شخصًا منذ ديسمبر، بينهم ثلث من الأطفال.

وأضافت أن 60% فقط من المستشفيات تعمل بكامل طاقتها، وأقل من نصف مراكز الرعاية الأولية قادرة على تقديم خدماتها، بينما توقف 280 مرفقًا صحيًا عن العمل أو خفّض خدماته بسبب نقص التمويل.

وأشارت مسويا إلى أن البلاد تواجه واحدة من أسوأ موجات الجفاف منذ أكثر من 30 عامًا، ما يهدد بفقدان 75% من محصول القمح، وهو ما يكفي لإطعام نحو 16 مليون شخص سنويًا. كما يتفشى وباء الكوليرا نتيجة انقطاع المياه والنزوح، مما يفاقم هشاشة الوضع الصحي والغذائي.

ورغم تمكن الأمم المتحدة من الوصول إلى 2.5 مليون شخص شهريًا، فإن خطة الاستجابة الإنسانية لم تموّل سوى بنسبة 14% فقط حتى منتصف العام، وهو ما وصفته مسويا بـ"الفرصة التي قد لا تتكرر".

موقف الأمم المتحدة

في مايو الماضي، أعرب الأمين العام أنطونيو غوتيريش عن "قلقه البالغ" إزاء تصاعد العنف في محيط دمشق وجنوب البلاد، في ظل تقارير عن سقوط ضحايا مدنيين واغتيال مسؤولين محليين.

ودعا غوتيريش، عبر المتحدث الرسمي ستيفان دوغاريك، إلى "الوقف الفوري لجميع الأعمال العدائية"، محذرًا من أن استمرار العنف قد يشعل فتيل توترات طائفية جديدة ويقوّض فرص الحل السياسي.

كما أدان الغارات الإسرائيلية الأخيرة على دمشق، بما فيها القصف الذي استهدف موقعًا قرب القصر الرئاسي، مؤكدًا ضرورة احترام وحدة وسيادة سوريا.

وأبدى ترحيبه ببيان الرئيس الإنتقالي أحمد الشرع الداعي إلى "الحوار الوطني والعمل المشترك"، مطالبًا السلطات المؤقتة بإجراء "تحقيقات علنية وشفافة" في جميع الانتهاكات، وتسريع عملية الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254.

في ظل تفاقم حوادث الثأر والانفلات الأمني، أصدر مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا فتوى تحث على نبذ "الانتقام الفردي"، داعيًا إلى التمسك بالمسار القضائي لاستيفاء الحقوق، وعدم الانجرار خلف الشائعات والتحريض.

وأكد المجلس في بيانه أن "العدالة يجب أن تُستوفى عبر القضاء فقط، وليس عبر التصرفات الفردية"، محذرًا من خطورة إشعال الفتنة، وداعيًا إلى "إبعاد قضاة السوء" وتعجيل المحاكمات لضمان السلم المجتمعي.

رسالة تهديد للسلم الأهلي

بدوره يرى المحامي والحقوقي السوري أنس جودة أن "ما حدث من انتهاكات وجرائم إبادة، خاصة في منطقة الساحل السوري، وما أعقبه من استهداف أماكن عبادة مسيحية، "ليس طارئًا بل نتيجة لانهيار الدولة القانونية والأمنية".

وأضاف جودة في تصريح لـ"جسور بوست": "المسيحيون، شأنهم شأن باقي المكونات، يدفعون ثمن هذا الانهيار، لكن الخطورة تتضاعف حين يُستهدفون بدافع ديني في رسالة تهديد خطيرة للسلم الأهلي".

وأضاف أن "الحديث عن المأساة ليس توصيفًا دراميًا بل واقعاً يجب مواجهته بشجاعة"، مطالبًا بحماية المجتمعات المهددة، وفتح تحقيقات شفافة، ومحاسبة المسؤولين، إلى جانب إطلاق مبادرات مدنية تُعلي من شأن التعددية وتُرمم الثقة بين المكونات.

وشدد على أن إنهاء المأساة يحتاج إرادة سياسية وقرارًا مستقلًا، لكنه حذر من استمرار منطق الغلبة، وتغول الميليشيات المسلحة، وغياب مشروع وطني جامع، مؤكدًا أن "الوقت يضيق، والانقسام المجتمعي أخطر من التقسيم الجغرافي.

فرص قائمة رغم التحديات

في المقابل، اعتبر المحلل العسكري ورئيس مركز "رصد" للدراسات، عبد الله الأسعد، أن ما جرى في الساحل تقف وراءه "فلول نظام الأسد" الذين حاولوا زعزعة الاستقرار لإرباك الحكومة الجديدة.

وأشار في تصريح لـ"جسور بوست" إلى أن الهجمات على المسيحيين جزء من هذه المحاولات، وأن "المنفذين جاءوا من مخيم الهول، الخاضع لسيطرة قسد، التي لم تندمج بعد في الجيش الوطني"، مؤكدًا أن ثغرات أمنية على أكثر من جبهة تُشكل تحديًا كبيرًا للسلطات الانتقالية.

ورغم ذلك، يرى الأسعد أن هناك "فرصًا حقيقية" لتقدم سوريا، في ظل دعم أمريكي وأوروبي وخليجي متزايد، بشرط "ضبط الفلول، وتسريع العدالة الانتقالية، وتكريس الشفافية والمساءلة".

رغم الزخم الدولي والدعوات المتكررة لتثبيت الاستقرار وبناء مسار انتقالي تشاركي، لا تزال سوريا تقف على مفترق طرق بين فرص واعدة لتجاوز عقد من الدمار، ومخاطر جدية تهدد بتقويض أي تقدم.

أحداث العنف الطائفي، والانتهاكات المتكررة، والانقسامات المجتمعية، تعكس هشاشة المرحلة الراهنة، وتضع الحكومة الانتقالية والمجتمع الدولي أمام مسؤولية تاريخية. إذ إن غياب المحاسبة وتباطؤ العدالة الانتقالية يفتح الباب واسعًا أمام الفراغات الأمنية والسياسية، التي تستغلها أطراف متعددة لإرباك المشهد وعرقلة التغيير.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية