"أزمة الأسرى والرهائن".. انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في قلب النزاعات المسلحة

"أزمة الأسرى والرهائن".. انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في قلب النزاعات المسلحة
أسرى فلسطينيون في يد القوات الإسرائيلية

في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، تصبح القيم الإنسانية في مهبّ الريح، وتتحول الحقوق إلى رهائن تُساوَم عليها في ساحات السياسة والميدان، من بين أبشع صور هذه الانتهاكات تأتي قضية احتجاز الرهائن، التي تتجاوز حدود الأرقام والإحصاءات لتلامس جوهر الكرامة الإنسانية وحق الإنسان في الحياة والحرية، وبينما يسعى القانون الدولي إلى فرض حماية خاصة للمدنيين والأسرى في النزاعات، يكشف الواقع عن فجوة مؤلمة بين النصوص والتطبيق.

رهائن في مرمى الصراعات

تاريخيًا، شكّل احتجاز الرهائن أداة ضغط عسكرية وسياسية في النزاعات المختلفة، من أجل تبادل الأسرى أو فرض شروط تفاوضية، ففي الحروب الحديثة، لم يعد الأمر مقتصرًا على الجنود بل طال المدنيين الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن، ويعود السبب إلى إدراك أطراف النزاع أن هؤلاء المدنيين يمثلون أوراقًا تفاوضية ثمينة، وأن المساس بحياتهم يثير ضجة إعلامية وضغوطًا دولية تُستغل لتحقيق مكاسب ميدانية أو سياسية.

في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر، برزت أزمة الرهائن بشكل مأساوي، فقد أشارت تقارير أممية وحقوقية إلى أن جماعات فلسطينية مسلحة احتجزت رهائن إسرائيليين في سياق الحرب الأخيرة، بينما نفّذت إسرائيل أيضًا حملات اعتقال جماعي بحق مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية، من بينهم نساء وأطفال وشخصيات سياسية.. هذه الصورة ليست استثناءً، بل تتكرر في نزاعات أخرى، مثل ما حدث في سوريا عندما استُخدم المدنيون دروعًا بشرية، أو في العراق حيث اختطفت جماعات متطرفة مئات الإيزيديين واستعبدتهم.

أزمة الرهائن في غزة وإسرائيل

اندلعت أزمة الرهائن بين إسرائيل وحركة حماس في غزة كأحد أخطر أبعاد الحرب الأخيرة، لتكشف هشاشة حماية المدنيين وسط نزاع طويل الأمد.. في السابع من أكتوبر 2023، نفذت حماس هجومًا مباغتًا على جنوب إسرائيل، أسفر عن مقتل مئات المدنيين واختطاف نحو 250 شخصًا، بينهم أطفال ونساء وعمال مهاجرون من جنسيات مختلفة.. هذا الهجوم أدّى إلى رد عسكري إسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة، شمل ضربات جوية مكثفة وعمليات برية، أسفرت بدورها عن آلاف الضحايا الفلسطينيين ودمارٍ غير مسبوق.

أزمة الرهائن تحوّلت سريعًا إلى ورقة ضغط تفاوضية، حيث طالبت حماس بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مقابل الإفراج عن الرهائن، بينما أصرت إسرائيل على إطلاق سراحهم غير المشروط، معتبرة أن بقاءهم في الأسر انتهاك فادح للقانون الدولي. في المقابل، شنّت إسرائيل حملات اعتقال واسعة في الضفة الغربية، طالت مئات الفلسطينيين بمن فيهم شخصيات سياسية ونشطاء، ما أثار اتهامات حقوقية بأنها تستخدم بدورها الاعتقال كورقة ضغط.

المنظمات الحقوقية الدولية، مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أدانت بشكل متوازٍ احتجاز الرهائن المدنيين من قِبل حماس باعتباره جريمة حرب، كما انتقدت السياسات الإسرائيلية التي ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي بحق سكان غزة والضفة الغربية، وفي الوقت الذي تُواصل فيه جهود الوسطاء الدوليين السعي لإبرام صفقات تبادل أو هدنة إنسانية، يظل الرهائن وعائلاتهم عالقين في دائرة الخوف والترقب، في انتظار حلٍّ يُعيد إليهم حريتهم ويضع حدًا لمعاناتهم الإنسانية.

القانون الدولي الإنساني: حماية على الورق أم درع حقيقي؟

يحظر القانون الدولي الإنساني بشكل قاطع احتجاز الرهائن، وينصّ على أن هذه الممارسة تُعدّ جريمة حرب. اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكولات الإضافية اللاحقة، تؤكد أن المدنيين يجب أن يُعاملوا معاملة إنسانية، وألا يُستخدموا كورقة ضغط أو تفاوض، إضافة إلى ذلك، ينصّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن أخذ الرهائن يُعدّ من الجرائم التي تخضع للملاحقة القضائية الدولية.

غير أنّ هذه النصوص لم تمنع وقوع الانتهاكات بشكل ممنهج. تعزو منظمات حقوقية هذا الإخفاق إلى غياب الإرادة السياسية، وصعوبة الوصول إلى مناطق النزاع لجمع الأدلة، فضلًا عن معايير مزدوجة تتّبعها بعض الدول في تطبيق العدالة الدولية.

الموقف الأممي والحقوقي.. إدانة مستمرة بلا ردع فعّال

تدين الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية بشدة كل أعمال احتجاز الرهائن، سواء ارتكبتها دول أو جماعات مسلحة غير حكومية، وفي الأزمة الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس، دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وشدد على ضرورة التزام الطرفين بالقانون الدولي الإنساني.

لكن الواقع يكشف أن الإدانات وحدها غير كافية، فحتى حين تُصدر الأمم المتحدة قرارات أو بيانات شجب، غالبًا ما تصطدم هذه النداءات بالاعتبارات السياسية للدول الكبرى، التي تدعم أطرافًا في النزاعات بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يقلل من فرص تطبيق القانون الدولي بحزم.

الإعلام وتشكيل صورة أزمة الرهائن

يلعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل صورة أزمة الرهائن، ففي حالات كثيرة، يصبح الرهائن مادة للضغط الإعلامي، إذ تنشر جماعات مسلحة تسجيلات مصورة للرهائن أو تهديدات بإعدامهم لتحقيق مكاسب سياسية أو استعراض القوة. في المقابل، تستخدم الدول المحتجَزة لرعاياها خطابًا إعلاميًا مكثفًا لتبرير تصعيد عسكري أو تبرير مواقف تفاوضية متشددة.

هذه الديناميكية المعقدة تجعل الرهائن أسرى مزدوجين: أسرى في يد خاطفيهم وأسرى في لعبة الإعلام والسياسة الدولية، ما يزيد من تعقيد جهود الإفراج عنهم بطرق سلمية.

الأزمة النفسية للرهائن وذويهم

وراء العناوين الصاخبة والبيانات الرسمية، تكمن مأساة إنسانية صامتة، حيث يتعرض الرهائن لصدمات نفسية شديدة جراء العنف أو التهديد المستمر بالقتل، إضافة إلى ظروف احتجاز مهينة وغير إنسانية. حتى بعد إطلاق سراحهم، يعاني كثيرون من اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب لفترات طويلة. كما تعيش أسرهم في دوّامة قلق مستمر بين الأمل واليأس، دون معرفة مصير أحبّتهم.

وتؤكد منظمات إنسانية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تقديم الدعم النفسي للرهائن الناجين وأسرهم لا يقل أهمية عن الجهود السياسية والقانونية للإفراج عنهم، وأن هذا البعد الإنساني غالبًا ما يُهمل في خضم الحسابات السياسية.

دارفور وسوريا وأوكرانيا

في إقليم دارفور بالسودان، وثّقت المحكمة الجنائية الدولية والآليات الأممية حوادث احتجاز رهائن من المدنيين على يد المليشيا المسلحة بهدف المساومة أو بث الرعب، وفي سوريا، استخدمت بعض الجماعات المسلحة والميليشيات الموالية للنظام السابق المدنيين كرهائن ودروع بشرية في مناطق النزاع، بينما شهدت أوكرانيا في السنوات الأخيرة عمليات خطف متبادل للأسرى والمدنيين بين القوات الروسية والأوكرانية، وهو ما أدانته الأمم المتحدة مرارًا.

هذه الأمثلة تكشف أن احتجاز الرهائن لم يعد مجرد تكتيك استثنائي، بل تحوّل في بعض النزاعات إلى أداة استراتيجية تستخدمها الأطراف بشكل متكرر.

ما الذي يمكن فعله؟

يؤكد خبراء القانون الدولي والحقوقيون أن كسر هذه الحلقة المفرغة يتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تشمل تعزيز آليات المساءلة الدولية، بما في ذلك دعم المحكمة الجنائية الدولية واللجان الأممية المستقلة للتحقيق، وكذلك الضغط على الدول لعدم حماية أو دعم الجماعات المسلحة المتورطة في هذه الانتهاكات، وأيضاً تمكين المجتمع المدني المحلي والمنظمات الإنسانية من الوصول الآمن للمناطق المنكوبة لتوثيق الحالات وتقديم الدعم، إضافة إلى الاستثمار في برامج التوعية بالقانون الدولي الإنساني لأطراف النزاعات، مع إدماج الدعم النفسي للرهائن وأسرهم ضمن خطط الاستجابة الإنسانية.

الرهائن هم إنسانيتنا المشتركة

تبقى أزمة الرهائن في النزاعات المسلحة جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية، هي ليست مجرد أرقام في التقارير أو أوراق ضغط سياسية، بل قصصاً بشرية مؤلمة تعبّر عن مدى هشاشة الكرامة الإنسانية في مواجهة العنف، وبينما يستمر الجدل القانوني والسياسي حول سُبل الردع والعقاب، يظل جوهر القضية إنسانيًا بالدرجة الأولى ممثلاً في حماية الأبرياء من أن يصبحوا أدوات في نزاعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

إن فشل المجتمع الدولي في حماية الرهائن ليس فقط إخفاقًا قانونيًا أو سياسيًا، بل أيضًا شهادة على فشلنا جميعًا في صون قيمنا الإنسانية المشتركة في زمن الحرب.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية