حرية الصحافة في مناطق النزاعات.. انتهاكات وتحديات حقوقية تتصاعد
حرية الصحافة في مناطق النزاعات.. انتهاكات وتحديات حقوقية تتصاعد
تُعد حرية الصحافة حجر الزاوية في أي مجتمع ديمقراطي، إلا أن هذا الحق الأساسي يواجه تحديات جسيمة، لا سيما في مناطق النزاعات المسلحة، فبينما تسعى وسائل الإعلام جاهدة لنقل الحقيقة وتوثيق الأحداث، يجد الصحفيون أنفسهم في مرمى النيران، بين قمع الأنظمة، وتهديدات الجماعات المسلحة، وخطر الاستهداف المباشر، ما يحول دون قيامهم بواجبهم المهني، ويُعمّق من ظاهرة الإفلات من العقاب لمرتكبي هذه الجرائم.
وتلقي "جسور بوست" في هذا التقرير الضوء على أبرز التحديات التي تواجه الصحفيين في هذه المناطق، مستعرضة تقارير المنظمات الحقوقية والأممية، حول هذه الأزمة المتفاقمة.
استهداف ممنهج وتضييق الخناق
تتصاعد قائمة الانتهاكات ضد الصحفيين في مناطق النزاع لتشمل الاغتيال، الاختطاف، الاعتقال التعسفي، التعذيب، والتهديد، فضلاً عن حملات التشويه والتحريض التي تستهدف مصداقيتهم، وهذه الانتهاكات لا تقتصر على أطراف النزاع الحكومية، بل تمتد لتشمل جماعات مسلحة غير حكومية تسعى لفرض روايتها الخاصة، وتكميم الأفواه التي تُعارضها، ففي العديد من الحالات، يُستخدم الصحفيون دروعاً بشرية أو تُستغل هوياتهم لغايات عسكرية، ما يُفقدهم الحماية المقررة لهم بموجب القانون الإنساني الدولي.
أحد أبرز التحديات هو الإفلات من العقاب، ففي الغالب، لا يتم التحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، أو لا يُحاسب مرتكبوها، ما يُشجع على المزيد من الانتهاكات، وهذا الوضع يُعوق بشكل مباشر قدرة الصحافة على العمل كرقيب على السلطة ومصدر للمعلومات الموثوقة، ويُسهم في انتشار المعلومات المضللة والشائعات، وهو ما يُعرف بـ"حرب المعلومات" التي تشتعل بالتوازي مع النزاعات المسلحة.
تقارير أممية وحقوقية
تُقدم العديد من المنظمات الدولية والأممية تقارير دورية تُوثق هذه الانتهاكات وتُصدر تحذيرات مستمرة، وفي هذا الإطار تُشير منظمة مراسلون بلا حدود في تقاريرها السنوية إلى أن مناطق النزاع هي الأكثر خطورة على الصحفيين، حيث يرتفع عدد القتلى والمعتقلين بشكل كبير، ففي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على سبيل المثال، حيث تتفشى النزاعات في سوريا واليمن وليبيا والسودان وغزة، يُواجه الصحفيون أخطاراً غير مسبوقة، وتُشدد المنظمة على أن حماية الصحفيين يجب أن تكون أولوية قصوى للمجتمع الدولي.
من جانبها، تُصدر لجنة حماية الصحفيين (CPJ) إحصائيات مُفزعة حول عدد الصحفيين القتلى والمعتقلين حول العالم، مُبرزة أن النسبة الكبرى منهم تُقتل في مناطق النزاع، وتُطالب اللجنة الحكومات باتخاذ إجراءات حازمة لضمان سلامة الصحفيين ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضدهم.
وقد أحصى الاتحاد الدولي للصحفيين في 2024 حوالي 520 صحفياً مسجوناً حول العالم، وهو زيادة حادة مقارنة بعامي 2023 (427 صحفياً) و2022 (375 صحفياً)، و
تبقى الصين (بما في ذلك هونغ كونغ) أكبر سجن للإعلاميين في العالم، بوجود 135 صحفياً خلف القضبان.
وبرزت إسرائيل كإحدى الدول التي تسجن أكبر عدد من الصحفيين في العالم بعد بدء حرب غزة، واحتلت المرتبة السادسة عالمياً في هذا التصنيف وفقاً للجنة حماية الصحفيين.
على الصعيد الأممي، تُولي الأمم المتحدة اهتمامًا متزايدًا لقضية سلامة الصحفيين، حيث يُشدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، باستمرار على الدور الحيوي الذي يلعبه الصحفيون في النزاعات، ويدعو إلى اتخاذ تدابير فعالة لحمايتهم، كما تُصدر المفوضية السامية لحقوق الإنسان تقارير تُفصل الانتهاكات وتُقدم توصيات للحكومات والجهات الفاعلة الأخرى لضمان احترام حقوق الصحفيين وحمايتهم، وكذلك يُولي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اهتمامًا لهذه القضية، حيث أصدر عدة قرارات تُطالب بحماية الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام في النزاعات المسلحة.
التداعيات على المجتمعات المتضررة
تجاوزًا للضرر المباشر الذي يلحق بالصحفيين، فإن تقييد حرية الصحافة في مناطق النزاع يُحدث تأثيرًا مدمرًا على المجتمعات المتضررة، ويُصبح المواطنون محرومين من المعلومات الدقيقة والموثوقة حول ما يحدث حولهم، ما يُعوق قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن سلامتهم ومستقبلهم، كما يُعوق غياب التغطية الصحفية المستقلة مساءلة الأطراف المتنازعة عن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ويُفقد العالم فرصة لفهم أبعاد النزاع بشكل كامل، ما يُعرقل جهود إحلال السلام وإعادة الإعمار.
ففي أفغانستان على سبيل المثال قالت منظمة العفو الدولية "أمنيستي" إن حركة طالبان واصلت تضييقها على الصحفيين منذ عودتها للسلطة عام 2021، حيث أغلقت مؤسسات إعلامية، وقيّدت برامج سياسية، وفرضت قيودًا صارمة على الحوارات والنقاشات العامة.
ووثقت بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (يوناما) أكثر من 330 حالة احتجاز وتعذيب للصحفيين خلال الفترة من أغسطس 2021 حتى سبتمبر 2024، ما يجعل من أفغانستان إحدى أخطر الدول للعمل الصحفي، حيث تحظر السلطات تغطية الأخبار التي تنتقد سياساتها أو تتناول انتهاكاتها.
دور التكنولوجيا ووسائل التواصل
لقد أحدثت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تحولًا جذريًا في مشهد الصحافة، خاصة في مناطق النزاع، حيث باتت تمثل سيفًا ذا حدين للصحفيين، فمن جهة، وفرت هذه المنصات، مثل فيسبوك، تويتر، ويوتيوب، أدوات غير مسبوقة للصحفيين لتوثيق الأحداث، ونقل الأخبار العاجلة من قلب الميدان، وتجاوز الرقابة الحكومية التقليدية.
وسمحت هذه الأدوات بوصول سريع ومباشر للصور والفيديوهات والشهادات من مناطق يصعب الوصول إليها بوسائل الإعلام التقليدية، مما مكّن العالم من مشاهدة وحشية النزاعات من كثب.
ومن جهة أخرى، أدت هذه الثورة التكنولوجية إلى تفاقم الأخطار التي يواجهها الصحفيون، فباتت حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي هدفاً للاختراق والتتبع، مما يُعرضهم للخطر المباشر من قبل أطراف النزاع التي تسعى لتحديد مواقعهم أو تكميم أفواههم.
كما سهّلت هذه المنصات انتشار حملات التضليل والتشويه التي تستهدف الصحفيين، وتُنشر من خلالها معلومات كاذبة تهدف إلى نزع المصداقية عنهم، أو حتى التحريض عليهم، علاوة على ذلك، تُستخدم التكنولوجيا في بعض الأحيان لأغراض المراقبة والتجسس، ما يضع الصحفيين تحت خطر دائم من كشف مصادرهم السرية أو كشف مواقعهم، وبالتالي يُقلل من قدرتهم على العمل بحرية واستقلالية في بيئة متوترة بطبيعتها.
دور المجتمع المحلي
غالبًا ما يُغفل الدور المحوري الذي يلعبه المجتمع المحلي في حماية ودعم حرية الصحافة في مناطق النزاع، ففي ظل الظروف القاسية التي تشهدها هذه المناطق، لا تقتصر مسؤولية حماية الصحفيين على المنظمات الدولية أو الجهات الحكومية فحسب، بل يمتد ليشمل أفراد المجتمع المدني والنشطاء المحليين الذين يُشكلون خط الدفاع الأول للصحفيين، حيث يقدم هؤلاء الدعم بأشكال مختلفة ومتنوعة، تتراوح بين إيواء الصحفيين المعرضين للخطر، وتوفير الملاذ الآمن لهم، إلى تزويدهم بالمعلومات الحيوية التي لا يمكن الحصول عليها من مصادر رسمية.
ويُسهم أفراد المجتمع في توثيق الانتهاكات التي يشهدونها، ويُصبحون هم أنفسهم مصادر معلومات أساسية، ما يُساعد الصحفيين على بناء قصصهم وتوثيق الحقائق.
وفي بعض الحالات، يقومون بتشكيل شبكات دعم غير رسمية لتأمين إمدادات الصحفيين، أو مساعدتهم على التنقل بين المناطق الخطرة، وهذا الدعم الشعبي، الذي ينبع من إدراك المجتمعات لأهمية وجود صحافة حرة ومستقلة في تسليط الضوء على معاناتهم وكشف الحقيقة، يُعزز من صمود الصحفيين ويُمكنهم من الاستمرار في أداء واجبهم المهني رغم التحديات الجسيمة، ويُظهر أن حماية الصحافة هي مسؤولية جماعية تتجاوز الحدود الرسمية.
حصيلة دامية للصحفيين
شكلت حرب غزة منذ اندلاعها في أكتوبر 2023 والمستمرة فصلاً مظلماً في سجل انتهاكات حقوق الصحفيين، حيث تحول القطاع المحاصر إلى أحد أخطر الأماكن في العالم لممارسة مهنة الصحافة، ولم يقتصر الأمر على المخاطر التقليدية لتغطية النزاعات المسلحة، بل امتد ليشمل استهدافاً مباشراً ومتواصلاً لرجال ونساء الإعلام، ما أدى إلى سقوط أعداد غير مسبوقة من الضحايا.
وفقاً لتقارير لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، تجاوز عدد الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام الذين استشهدوا في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 المئتي صحفي، وتشير الأرقام الحكومية في غزة أن عدد الضحايا من الصحفيين قد بلغ 227 شهيداً وهو رقم يفوق بكثير حصيلة أي نزاع آخر في العقود الأخيرة، بخلاف العشرات الذين أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة، أو فقدوا منازلهم ومكاتبهم، أو تعرضوا للاعتقال والتهديد.
وتُلقي هذه الحصيلة الدامية بظلالها على قدرة الصحافة على نقل الحقيقة من الميدان، وتُثير تساؤلات جدية حول احترام القانون الإنساني الدولي الذي يُلزم بحماية الصحفيين بصفتهم مدنيين، وتُؤكد على الحاجة الملحة لتحقيق دولي مستقل ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي تُعد انتهاكاً صارخاً لحرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة.
مستقبل أكثر أماناً للصحافة
لمواجهة هذه التحديات، يوصي صحفيون ومراقبون متخصصون بأنه يجب على المجتمع الدولي، والجهات الفاعلة المحلية، والمنظمات الحقوقية العمل بشكل منسق من خلال تعزيز آليات المساءلة حيث يجب ضمان التحقيق الفوري والشامل في جميع الانتهاكات المرتكبة ضد الصحفيين، وتقديم المسؤولين إلى العدالة، وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.
وحول دعم الصحفيين أكد المراقبون أنه يجب توفير التدريب على السلامة للصحفيين العاملين في مناطق النزاع، وتوفير المعدات الوقائية، وتقديم الدعم النفسي والقانوني لهم ولأسرهم، وكذلك ممارسة ضغط دولي على أطراف النزاع للاحترام الكامل للقانون الإنساني الدولي وحماية الصحفيين كمدنيين، وعدم استهدافهم أو استخدامهم لأغراض عسكرية، بجانب مكافحة المعلومات المضللة ودعم الصحافة المستقلة والموثوقة لمواجهة انتشار المعلومات المضللة والشائعات التي تُغذّي النزاعات وتُعمق الاستقطاب، فضلاً عن تعزيز دور المنظمات الدولية وزيادة الدعم للمنظمات الأممية والحقوقية التي تُوثق الانتهاكات وتُقدم الدعم للصحفيين.
وقالت منظمة العفو الدولية "أمنيستي"، إن حرية الصحافة لم تعد في مأمن في أي مكان، من غواتيمالا إلى الولايات المتحدة، ومن روسيا إلى باكستان، حيث توظف الحكومات قوانين مبهمة، ونظم قضائية تفتقر للاستقلالية، وقوة أمنية مفرطة لقمع الإعلام وتكميم الأفواه.
وقالت “أمنيستي” إن الهجمات ضد الصحافة لم تعد مجرد حوادث متفرقة، بل أصبحت عناصر رئيسية في استراتيجيات سياسية منظمة تهدف لتفكيك منظومة حقوق الإنسان.
وطالبت الحكومات بدعم الإعلام الحر بدلًا من قمعه، وتسهيل الوصول إلى المعلومات العامة، والتوقف عن شيطنة الإعلاميين أو فرض القيود على المحتوى والنشر.
وفي الختام، إن حماية حرية الصحافة في مناطق النزاع ليست مجرد قضية حقوقية، بل هي ضرورة حتمية لإحلال السلام، وتحقيق العدالة، وبناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة؛ فصوت الصحافة هو صوت الحقيقة، وهذا الصوت يجب أن يظل مسموعًا، حتى في أحلك الظروف.