"تصاعد الغضب وتآكل القيم".. هل أصبح المهاجرون هدفاً للهجمات في قلب أوروبا؟

"تصاعد الغضب وتآكل القيم".. هل أصبح المهاجرون هدفاً للهجمات في قلب أوروبا؟
اشتباكات مع المهاجرين في توري باتشيكو بإسبانيا

في قلب القارة الأوروبية التي طالما تباهت بقيم التسامح وحقوق الإنسان، تشهد السنوات الأخيرة تحوّلًا خطيرًا في المزاج الشعبي، تُرجِم إلى موجة متصاعدة من العنف اللفظي والجسدي ضد المهاجرين، ولا يقتصر الأمر على السجالات السياسية أو الحملات الإعلامية التي تستهدف الأجانب، بل يمتد إلى اعتداءات ميدانية مروعة تطال حتى الأطفال والنساء في الشوارع، والمدارس، ومراكز الإيواء. 

وباتت هذه الظاهرة التي كانت تُعد نادرة أو معزولة، تتكرر بوتيرة مقلقة في عدد من الدول الأوروبية، ما يطرح أسئلة ملحة حول أسباب هذا التصعيد، والمسؤوليات السياسية، والمآلات الاجتماعية والإنسانية لهذا الانزلاق الخطير.

ويعكس الحادث الأخير في توري باتشيكو بإسبانيا، الذي شهد مواجهات عنيفة بين جماعات يمينية متطرفة ومهاجرين من أصول مغاربية، بوضوح كيف يمكن لشرارة صغيرة أن تشعل نارًا أكبر في بيئة متوترة، حيث تتقاطع العنصرية المكبوتة، مع خطابات الكراهية المتفشية، وتواطؤ بعض القوى السياسية أو صمتها. 

اعتداءات متزايدة ضد اللاجئين

شهدت عدة دول أوروبية في السنوات الأخيرة اعتداءات متزايدة ضد اللاجئين والمهاجرين، منها ما يُرتكب من قبل أفراد، ومنها ما تتورط فيه جماعات منظمة مدفوعة بخلفيات أيديولوجية يمينية متطرفة. 

ووثقت منظمات دولية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، عشرات الحالات التي يُهاجم فيها المهاجرون بشكل مباشر، لا لشيء سوى لاختلاف لغتهم أو لونهم أو دينهم.

وفي ألمانيا، سجّلت وزارة الداخلية في عام 2023 أكثر من 1300 اعتداء عنصري ضد اللاجئين، معظمها ارتُكب ضد المراكز السكنية المؤقتة، وفي إيطاليا، ازدادت جرائم الكراهية بنسبة 40% منذ وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة، أما في فرنسا، فقد شهدت مناطق مثل كاليه وباريس عمليات طرد جماعية غير رسمية، واعتداءات من قبل مدنيين على مهاجرين من إفريقيا وآسيا.

حالة توري باتشيكو

يُعتبر الحادث الذي وقع في 12 يوليو الجاري في بلدة توري باتشيكو جنوب شرق إسبانيا من أخطر موجات العنف العنصري في البلاد خلال العقود الأخيرة. 

ووفق تقارير رسمية، اندلعت المواجهات بين مجموعات من اليمين المتطرف وسكان محليين ومهاجرين، إثر حادثة اعتداء غير واضحة المعالم على مسنّ إسباني قبل أيام، استغلها المتطرفون كذريعة لتأجيج خطاب الكراهية وتنظيم مظاهرات تحريضية.

وكانت النتيجة إصابة 5 أشخاص، واعتقال واحد على الأقل، وتوتر غير مسبوق أعاد إلى الأذهان أسوأ سيناريوهات العنف المجتمعي المبني على العنصرية.

ما يثير القلق أن هذا التصعيد وقع بعد تراجع حكومة مورسيا عن خطة إيواء الأطفال المهاجرين القُصّر، تحت ضغط من حزب "فوكس" اليميني المتطرف، الذي بات يتحكم في مفاصل السياسة الإسبانية عبر تحالفاته مع حزب الشعب المحافظ، في مشهد يُظهر تطبيع خطاب الكراهية سياسياً.

تنامي العداء للمهاجرين 

تشير تحليلات أكاديمية، نشرتها جامعة أكسفورد ومعهد "بروكنغز"، إلى أن العوامل الاقتصادية وحدها لا تفسر تنامي العداء للمهاجرين، فحتى في دول ذات معدلات بطالة منخفضة، تتصاعد موجات الكراهية، ما يبرز دور العوامل الثقافية والسياسية، مثل الخوف من فقدان الهوية الوطنية أو "ذوبان الثقافة الأوروبية".

بالإضافة إلى تضخيم وسائل الإعلام لحوادث فردية تُنسب لأجانب، واستثمار التيارات اليمينية الشعبوية في العنصرية كورقة انتخابية، وضعف البرامج الحكومية لدمج المهاجرين ثقافياً واجتماعياً.

وإذا ما استمرت هذه الهجمات دون محاسبة، فإن أوروبا تواجه خطرًا حقيقيًا يتمثل في تآكل قيم المواطنة والتعددية، التي كانت تُعد من ركائز الاتحاد الأوروبي، وتصاعد نزعات الانتقام والتطرف المضاد، لا سيما في أوساط الشباب المهمّشين من أصول مهاجرة.

بالإضافة إلى عزوف المهاجرين عن الاندماج، وشعورهم بالاغتراب والتهميش داخل المجتمعات التي يعيشون فيها، وتحول بعض المناطق إلى جيوب مغلقة للتوتر، ما يهدد الأمن المحلي ويزيد من الانقسام الاجتماعي.

تجريم خطابات الكراهية

لوقف هذا المسار التصاعدي، يدعو حقوقيون ومفكرون أوروبيون إلى تجريم خطابات الكراهية على جميع المستويات، بما في ذلك منصات الإعلام والسياسة، وإعادة النظر في الخطاب السياسي وتقييد النفوذ المتزايد لليمين المتطرف، ودعم برامج الدمج الثقافي والتعليمي، التي تعزز الفهم المتبادل بين السكان والمهاجرين، وفرض رقابة صارمة على شبكات التحريض الإلكترونية التي تغذي الكراهية.

ما يحدث اليوم في توري باتشيكو، وفي غيرها من المدن الأوروبية، ليس مجرد "حادث عرضي"، بل هو نتاج مسار سياسي واجتماعي يشي بانقلاب عميق على القيم التي قامت عليها أوروبا الحديثة. 

وبدلاً من مواجهة هذا التهديد بوضوح، تفضل بعض الحكومات التغاضي عنه لحسابات انتخابية قصيرة الأمد.. غير أن التاريخ يعلّمنا أن التغاضي عن الظلم لا يصنع استقرارًا، وأن المجتمعات لا تبنى على الخوف بل على العدالة والمساواة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية