حرب غزة.. الأرقام تحصي الضحايا والقانون الدولي عاجز عن حمايتهم

حرب غزة.. الأرقام تحصي الضحايا والقانون الدولي عاجز عن حمايتهم
فلسطينيون بين الأنفاض في غزة

منذ بدايات النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، ظل الحق في الحياة –بصفته حقاً أساسياً مكفولاً بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية– موضع اختبار قاسٍ، لكن ما تشهده غزة منذ اندلاع الحرب الأخيرة حوّل هذا الاختبار إلى مأساة معلنة، إذ بات المدنيون الفلسطينيون، نساءً وأطفالًا ورجالًا، هدفًا مباشرًا أو غير مباشر لآلة الحرب.

تُظهر الصور القادمة من قطاع غزة ركامَ البيوت ومستشفيات مكتظة بجرحى لا يجدون الدواء، وأرقامًا صادمة تتجاوز مجرد الإحصاء، بل تحكي عن أرواح فقدت ومعانٍ إنسانية ضاعت في زحمة الصراع.

جثث صغيرة وأحلام منسية

في أحد تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، وُثق أن آلاف الأطفال فقدوا حياتهم أو أطرافهم جراء القصف الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية، وبينما كان يفترض أن هؤلاء الصغار محميون بالقانون الإنساني الدولي، الذي يشدد على ضرورة حماية المدنيين والأطفال على وجه الخصوص، تحولت أجسادهم إلى شهادات دامغة على فشل هذا الحماية.

في مشهد آخر، وثّقت منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان قصة عائلة فقدت أربعة أطفال في غارة على منزلها في حي الشجاعية، بينما كانوا يختبئون في غرفة اعتقدوا أنها الأكثر أمانًا، لم يكن لهم ذنب سوى أنهم عاشوا في قطاع غزة.

الحق في الحياة

تنص المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بوضوح على أن الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، ويجب حمايته بموجب القانون، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته تعسفًا، كما يشدد القانون الدولي الإنساني على وجوب التمييز بين المقاتلين والمدنيين، واتخاذ الاحتياطات لتجنب الإضرار بالأخيرين.

لكن على أرض غزة، حيث تُطلق الصواريخ دون سابق إنذار كافٍ، وتُستهدف أحيانًا منازل بأكملها على خلفية الاشتباه بوجود مقاتلين، يصبح هذا الحق مجرد سطر في تقارير حقوقية لا يغير شيئًا في الواقع الدامي.

أرقام تُخبر القصة بلغتها القاسية

وفق أحدث بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 58,573 شهيداً، و139,607 مصاباً، منذ 7 أكتوبر 2023، بينهم نسبة مرتفعة من النساء والأطفال تتجاوز 40% من الضحايا.

وأوضحت الوزارة أن من بين الحصيلة 7,750 شهيداً، و27,566 مصاباً، منذ 18 مارس الماضي، أي منذ استئناف العدوان على القطاع عقب اتفاق وقف إطلاق النار، مشيرة إلى أن حصيلة شهداء "المساعدات" الذين وصلوا إلى المستشفيات 851 شهيداً، وأكثر من 5,634 مصابين.

وأشارت التقارير إلى تدمير آلاف الوحدات السكنية، وتشريد مئات آلاف الأشخاص، ما حرمهم فعليًا من أبسط مقومات الحياة الكريمة.

كما تؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO) أن النظام الصحي في غزة انهار تقريبًا، مع نفاد الإمدادات الطبية وعدم قدرة المستشفيات على استيعاب الأعداد المتزايدة من الجرحى، ما يُفاقم خطر ارتفاع الوفيات بين الجرحى والمصابين بأمراض مزمنة.

تقارير أممية وحقوقية

توالت تقارير المنظمات الدولية والحقوقية لتوثق حجم الانتهاكات فقد أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) بيانات وتقارير متتالية تعبر عن قلقها البالغ إزاء انتهاكات القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان في غزة، وتدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار والتحقيق في الجرائم المرتكبة، والمفوض السامي أشار مراراً إلى وجود أدلة على جرائم حرب محتملة من قبل جميع الأطراف.

كما حذرت منظمة الصحة العالمية (WHO) مراراً من انهيار وشيك للمنظومة الصحية في غزة، مشيرة إلى أن "الرعاية الصحية في القطاع تُعاقب"، وتُفيد إحصاءات المنظمة بأن أكثر من 70% من المستشفيات في غزة أصبحت غير صالحة للعمل، وأن النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية يهدد حياة الملايين.

هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وثقتا استخدام أسلحة محرمة دولياً، واستهداف المدنيين، والبنية التحتية المدنية، والحرمان من المساعدات الإنسانية، وطالبتا بتحقيقات مستقلة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، كما أشارت تقاريرهما إلى أن الحصار المتواصل يعتبر عقاباً جماعياً لسكان غزة، وهو محظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.

وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا): التي تقدم خدمات حيوية لملايين اللاجئين الفلسطينيين، كانت هي نفسها هدفاً للهجمات، مما أثر على قدرتها على تقديم المساعدات، وتشير الأونروا إلى أن أكثر من 1.7 مليون شخص، أي ما يقارب 75% من سكان غزة، نزحوا قسراً عدة مرات داخل القطاع.

جدلية الدفاع عن النفس

تستند إسرائيل إلى حق الدفاع عن النفس لتبرير عملياتها العسكرية، وهو حق معترف به في القانون الدولي، لكن هذا الحق يجب أن يُمارَس وفقًا لمبدأي التناسب والتمييز، أي إن أي رد عسكري يجب ألا يكون مبالغًا فيه مقارنة بالخطر القائم، وألا يستهدف المدنيين عمدًا.

إلا أن المنظمات الحقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية (أمنستي)، وثقت عشرات الحالات التي اعتبرت أن إسرائيل خرقت فيها مبدأ التناسب، وأوقعت خسائر بشرية ومادية جسيمة دون مبرر عسكري كافٍ.

ويعود السياق المباشر لهذه المأساة إلى الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة منذ عام 2007، والذي حوّل المنطقة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، بحسب توصيف العديد من التقارير الأممية، وهذا الحصار المستمر أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية والتعليمية، وجعل سكان غزة أكثر عرضةً لأية موجة عنف.

وعلى مدار خمسة عشر عامًا، شهد القطاع عدة حروب دامية، أبرزها في أعوام 2008 و2012 و2014، خلّفت آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، ودمارًا واسع النطاق في البنية التحتية.

المنظمات الحقوقية والنداءات المتكررة

أصدرت مجموعة كبيرة من المنظمات الحقوقية، من بينها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بيانات تدعو إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية وحماية المدنيين، وتُطالب بفتح تحقيقات مستقلة في الانتهاكات المزعومة. ومع ذلك، غالبًا ما تظل هذه النداءات حبرًا على ورق في مواجهة حسابات السياسة الدولية المعقدة.

وبعيدًا عن السياسة والقانون، تكشف القصص الإنسانية عمق المأساة، والتي تتنوع بين أم فقدت أربعة من أطفالها في لحظة، وأب يحمل جثمان طفله بين الأنقاض عاجزًا حتى عن البكاء، وأطفال لم يعرفوا طيلة حياتهم سوى أصوات الانفجارات وصفارات الإنذار وغيرها الكثير من الصور المفجعة.

وتستمر حرب غزة في اختبار حدود القانون الدولي، وتكشف هشاشته أمام ميزان القوة على الأرض، وبينما تتكدس التقارير الحقوقية على رفوف الأمم المتحدة، يبقى السؤال الأخلاقي والإنساني مفتوحًا: متى يتوقف هذا النزيف؟ وهل سيأتي يوم يُطبَّق فيه الحق في الحياة حقًا، بدلًا من أن يظل نصًا جميلًا في وثائق رسمية؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية