"أرض التسامح" تواجه تحدياً.. كيف يُهدد تصاعد التمييز الديني النسيج الاجتماعي في هولندا؟

"أرض التسامح" تواجه تحدياً.. كيف يُهدد تصاعد التمييز الديني النسيج الاجتماعي في هولندا؟
أزمة التمييز الديني في هولندا

لطالما عُرفت هولندا بكونها منارة للتسامح والانفتاح في أوروبا، وبيئة تحتضن التنوع الثقافي والديني، لكن صورة هذه "الأرض المتسامحة" تتعرض لتحدٍ خطير، مع تزايد مقلق في بلاغات التمييز على أساس الدين، حيث كشف المعهد الهولندي لحقوق الإنسان عن ارتفاع كبير في عدد الشكاوى والبلاغات المتعلقة بالتمييز الديني، ما يثير تساؤلات جدية حول النسيج الاجتماعي وقيم التعايش في هذا البلد الأوروبي، وتلقي هذه الأزمة المتنامية، التي تتجلى في صور متعددة من معاداة السامية والتمييز ضد المسلمين، بظلالها على الحقوق الأساسية وتُهدد بتآكل المبادئ التي بُنيت عليها هولندا الحديثة.

أرقام مقلقة.. مؤشر على أزمة متفاقمة

تُشير البيانات الصادرة عن معهد حقوق الإنسان في هولندا إلى اتجاه تصاعدي مثير للقلق في بلاغات التمييز على أساس الدين، فمنذ بداية العام الحالي، تلقى المعهد 87 بلاغاً من هذا النوع، وهو رقم يُقارب العدد الإجمالي للبلاغات المسجلة في عام 2024 بأكمله (120 بلاغاً)، هذا الارتفاع السريع يُعد مؤشراً واضحاً على أن المشكلة ليست حادثاً عابراً، بل هي أزمة متفاقمة تحتاج إلى تدخل فوري.

ولم تقتصر الزيادة على البلاغات الأولية فحسب، بل امتدت لتشمل طلبات إصدار الأحكام القانونية. 

في عام 2024 بأكمله، تلقى المعهد 31 طلباً لإصدار حكم في قضايا تمييز ديني، بينما تم تقديم 21 طلباً بالفعل هذا العام، الأهم من ذلك، أن المعهد أصدر أحكاماً في 61 قضية بشكل عام، ووجد في 70% منها وجود تمييز فعلي، هذه النسبة المرتفعة تُؤكد أن البلاغات ليست مجرد تصورات، بل تعكس وقائع تمييز حقيقية.

يتوزع التمييز على أشكال مختلفة، لكن المعهد أشار إلى أن المواضيع المتكررة شملت التمييز ضد المسلمين، ومعاداة السامية، والقيود المفروضة على غرف الصلاة في المدارس، وحظر ارتداء الحجاب في أماكن العمل، وتظهر هذه الأمثلة أن التمييز يتجلى في جوانب متعددة من الحياة اليومية، من التعليم إلى التوظيف، ما يُؤثر بشكل مباشر على حياة الأفراد.

صدى الأحداث الجارية وارتفاع الوعي

على الرغم من أن المعهد لم يُحدد سبباً واحداً لهذه الزيادة، إلا أنه أشار إلى أن التقارير والطلبات التي يتلقاها "تعكس دائماً الأحداث الجارية في المجتمع الهولندي"، و هذا التصريح يُشير إلى أن التوترات الجيوسياسية والأحداث العالمية، خاصة تلك المتعلقة بالصراعات في الشرق الأوسط، قد تُسهم في تأجيج المشاعر المعادية للأديان المختلفة، خاصة الإسلام واليهودية، يمكن أن تُترجم هذه التوترات إلى سلوكيات تمييزية في الشارع، وفي أماكن العمل، وحتى في الفضاء الرقمي.

بالإضافة إلى ذلك، يُحتمل أن يكون ازدياد الوعي العام بوجود المعهد الهولندي لحقوق الإنسان، وزيادة الرغبة في الإبلاغ عن الحوادث، عاملاً مُساهماً في هذه الزيادة في الأرقام، فكلما زادت معرفة الضحايا بالجهات التي يُمكنهم اللجوء إليها، زادت احتمالية إبلاغهم عن حالات التمييز التي يتعرضون لها، مما لا يعني بالضرورة زيادة حادة في عدد الحوادث بقدر ما يعني ارتفاع في توثيقها، ومع ذلك، فإن النسبة المرتفعة للحالات التي يُثبت فيها المعهد وجود تمييز تُشير إلى أن المشكلة أعمق من مجرد زيادة في الوعي بالإبلاغ.

هولندا بين التسامح والتوترات الكامنة

تُعرف هولندا تاريخياً بـ "سياسة التسامح" (Gedogenbeleid)، والتي تعني التغاضي عن بعض السلوكيات التي قد تكون غير قانونية لكن يُنظر إليها كجزء من التنوع الاجتماعي، وهذا النهج، الذي وُجد تاريخياً لاستيعاب الأقليات الدينية مثل البروتستانت والكاثوليك في فترات سابقة، امتد ليشمل قضايا مثل استخدام القنب والهجرة، وقد رسخت هذه السياسة صورة هولندا كدولة ليبرالية ومتقبلة للتنوع.

ومع ذلك، لم تخلُ هولندا من التوترات الدينية والعرقية، خاصة مع تزايد الهجرة من دول خارج أوروبا منذ منتصف القرن العشرين. شهدت السنوات الأخيرة صعوداً لليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية التي تتبنى خطاباً معادياً للمهاجرين والإسلام، مما أدى إلى تصاعد التوترات في المجتمع. قضايا مثل ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، بناء المساجد، واندماج المهاجرين، أصبحت محاور للنقاشات الساخنة، وغالباً ما تتخذ طابعاً تمييزياً.

تزايد معدلات معاداة السامية في هولندا، خاصة في أعقاب الصراعات في الشرق الأوسط، يعكس أيضاً هشاشة التسامح في بعض الأوساط. ورغم الجهود المستمرة لمكافحة هذه الظاهرة، فإن الإحصائيات الأخيرة تُشير إلى ضرورة مضاعفة هذه الجهود.

تقارير المنظمات الحقوقية والأممية

أعربت العديد من المنظمات الحقوقية والدولية عن قلقها البالغ إزاء ارتفاع التمييز الديني في هولندا كالتالي:

منظمة العفو الدولية (Amnesty International): تُشدد المنظمة باستمرار في تقاريرها حول هولندا على ضرورة مكافحة التمييز بكافة أشكاله. وقد أشارت في تقاريرها السنوية إلى أن المسلمين واليهود يتعرضون بشكل متزايد للتمييز والخطاب المعادي، مما يُؤثر على حقوقهم في حرية الدين والمعتقد،ودعت المنظمة السلطات الهولندية إلى اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية لمكافحة خطاب الكراهية وضمان حماية الأقليات الدينية.

اللجنة الأوروبية لمكافحة العنصرية والتعصب (ECRI) التابعة لمجلس أوروبا: في تقاريرها الدورية حول هولندا، أعربت اللجنة عن قلقها بشأن تزايد التمييز ضد المهاجرين والأقليات، بما في ذلك التمييز على أساس الدين، وقد أوصت اللجنة هولندا بتعزيز آلياتها القانونية والتنفيذية لمكافحة التمييز، وزيادة الوعي بالحقوق المكفولة للأقليات الدينية.

المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة: على الرغم من أن هولندا تُعدّ دولة ملتزمة بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، إلا أن المفوضية تتابع عن كثب التطورات المتعلقة بالتمييز، وتُشير التوصيات الصادرة عن آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (مثل الاستعراض الدوري الشامل) إلى ضرورة التصدي للتمييز العنصري والديني بشكل فعال، وتعزيز التفاهم المشترك بين الطوائف.

المراكز الأوروبية لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب (EUMC - سلف وكالة الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي): أكدت هذه المراكز في الماضي على أن التمييز الديني، وخاصة الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، يُشكل تحدياً كبيراً في هولندا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، تُظهر الأبحاث أن هذه الظواهر ليست مجرد حوادث فردية، بل هي جزء من أنماط أوسع من التحيز والتحامل.

تحديات الحفاظ على قيم التسامح

يُشكل ارتفاع التمييز الديني في هولندا تحدياً حقيقياً لقيم التسامح والانفتاح التي طالما افتخرت بها البلاد، وبينما يُشير المعهد الهولندي لحقوق الإنسان إلى أن هذه الأرقام تعكس الأحداث الجارية في المجتمع، فإنها تُسلط الضوء أيضاً على ضرورة تعزيز جهود مكافحة التمييز على جميع المستويات، يتطلب الأمر ليس فقط آليات قوية للإبلاغ والإنصاف، بل أيضاً جهوداً مكثفة لتعزيز التفاهم المتبادل بين الأديان والثقافات، ومواجهة الخطاب المتطرف الذي يُغذي الكراهية.

وفق مراقبين فإن الإخفاق في التصدي لهذه الظاهرة المتنامية قد يُهدد بتآكل النسيج الاجتماعي، وتقويض المبادئ الديمقراطية، وتحويل ماضي التسامح إلى مجرد ذكرى بعيدة، لافتين أن المعركة ضد التمييز الديني هي معركة مستمرة، وتتطلب يقظة مستمرة والتزاماً لا يتزعزع بالعدالة والمساواة للجميع.

تُعدّ هولندا، رغم سمعتها كدولة متسامحة، مجتمعاً متعدد الثقافات والأديان، لكن هذا التنوع لم يخلُ من التحديات،  ويشكل المسلمون أكبر أقلية دينية بعد المسيحيين، ويُقدر عددهم بحوالي مليون نسمة، أي نحو 5-6% من إجمالي السكان، أما الجالية اليهودية، وإن كانت أصغر عدداً، فلها تاريخ طويل وعميق في البلاد، وتُقدر بنحو 30 إلى 40 ألف نسمة.

الإسلاموفوبيا: تُشير تقارير من منظمات غير حكومية هولندية، مثل "منصة مكافحة الإسلاموفوبيا" (Meldpunt Discriminatie Internet - MDI)، إلى أن بلاغات الإسلاموفوبيا تتراوح بين بضع مئات إلى أكثر من ألف بلاغ سنوياً، وتشمل حوادث التمييز في العمل، والتعليم، وفي الأماكن العامة، وكذلك خطاب الكراهية عبر الإنترنت غالباً ما ترتفع هذه الأعداد في أوقات التوترات الدولية أو النقاشات العامة حول الهجرة.

معاداة السامية: تُظهر تقارير المنسق الوطني لمكافحة معاداة السامية (NCAB) ومؤسسات مثل مركز المعلومات والتوثيق حول إسرائيل (CIDI) أن حوادث معاداة السامية في هولندا تتزايد، في السنوات الأخيرة، تُسجل مئات الحوادث سنوياً، تتراوح بين الألفاظ المسيئة، وتخريب الممتلكات، وحتى الاعتداءات الجسدية، تُشير بعض الدراسات إلى أن الشباب اليهودي قد يُفضل إخفاء هويته الدينية في الأماكن العامة لتجنب المضايقات.

التمييز في سوق العمل: تُظهر دراسات أجراها المعهد الهولندي لحقوق الإنسان ووكالات توظيف مستقلة أن الأفراد الذين يحملون أسماء عربية أو تبدو ذات أصول مهاجرة، أو من يرتدون رموزاً دينية مثل الحجاب، يواجهون صعوبات أكبر في الحصول على مقابلات عمل أو وظائف مقارنة بأقرانهم الهولنديين الأصليين، حتى لو كانت مؤهلاتهم متساوية.

التمييز في التعليم: تُسجل بلاغات حول التمييز ضد الطلاب بسبب معتقداتهم الدينية، سواء كان ذلك في التعامل اليومي أو في مسائل متعلقة بغرف الصلاة أو الأنشطة المدرسية.

إن هذه الإحصائيات، إلى جانب الأرقام التي أوردها المعهد الهولندي لحقوق الإنسان، تُؤكد أن التمييز الديني في هولندا ليس مجرد حوادث معزولة، بل هو ظاهرة متنامية تتطلب استجابة شاملة من الحكومة والمجتمع المدني لضمان أن تبقى هولندا مكاناً آمناً ومنصفاً للجميع، بغض النظر عن دينهم أو خلفيتهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية