انعدام أمان حقيقي.. يهود أستراليا بين شبح الكراهية وارتدادات حرب غزة
انعدام أمان حقيقي.. يهود أستراليا بين شبح الكراهية وارتدادات حرب غزة

لم يكن المجتمع اليهودي في أستراليا يتوقع أن يجد نفسه في قلب موجة متصاعدة من الكراهية، مع كل ما حملته حرب غزة الأخيرة من توترات ارتدت صداها آلاف الكيلومترات بعيدًا عن الشرق الأوسط، فبينما تواصلت أصداء الحرب على شاشات الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي، وجد عشرات الآلاف من اليهود الأستراليين أنفسهم فجأة هدفًا لتهديدات لفظية وهجمات فعلية وشعارات عدائية، حتى باتت عبارة "نشعر بانعدام أمان حقيقي" الأكثر تداولًا بينهم.
وقد أعلنت المبعوثة الخاصة للحكومة الأسترالية المعنية بمعاداة السامية جليليان سيغال، الخميس، أنّ اليهود الأستراليين يشعرون بـ"انعدام أمان حقيقي" بعدما تزايدت ضدّهم التهديدات وأعمال التخريب والعنف منذ اندلعت الحرب في غزة.
وأوضحت المسؤولة خلال مؤتمر صحفي أنّ عدد هذه الحوادث زاد بنسبة 300% خلال عام واحد.
وقالت "لقد شهدنا إحراق سيارات، وإحراق معابد يهودية، ويهودا يتعرضون لمضايقات وهجمات. هذا أمر غير مقبول على الإطلاق".
وبعد عام من تعيينها، أصدرت سيغال سلسلة توصيات لمكافحة معاداة السامية وندّدت بتصاعد العنف ضد يهود أستراليا.
أرقام تكشف صدمة الواقع
وفقًا لتقرير المجلس التنفيذي لليهود الأستراليين (ECAJ)، الجهة المظلة الرئيسية للجالية اليهودية، فإن عام 2024 سجّل أعلى معدلات معاداة السامية في تاريخ أستراليا الحديث، فقد تم توثيق أكثر من 2,060 حادثة معادية للسامية خلال عام واحد فقط، بزيادة قياسية تجاوزت 316% مقارنة بعام 2023.
وتنوّعت هذه الحوادث بين: هجمات جسدية مباشرة في الشوارع والأحياء، ورسائل تهديد وعبارات كراهية ملصقة على جدران المدارس والمحال اليهودية، وتخريب معابد ومدارس ومراكز اجتماعية، وكذلك بلاغات متزايدة عن تنمر طلاب يهود في الجامعات.
ويصف المجلس التنفيذي الأرقام بأنها غير مسبوقة في ذاكرة الجالية الأسترالية ويحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية إلى تداعيات حرب غزة الأخيرة.
كيف أشعلت حرب غزة فتيل الكراهية؟
بدأت جذور هذه الموجة في أكتوبر 2023، مع اندلاع الحرب المدمرة في قطاع غزة، والتي ترافقت مع موجة احتجاجات واسعة حول العالم، من بينها مظاهرات ضخمة في كبرى المدن الأسترالية، تحولت بعض هذه التجمعات من انتقاد سياسات إسرائيل إلى خطابات مباشرة ضد اليهود كجماعة دينية.
في سيدني وملبورن، رُصدت هتافات تدعو لطرد اليهود وكتابات جدارية تحض على العنف
ويرى خبراء مكافحة خطاب الكراهية أن حرب غزة أعادت إلى الواجهة السؤال الأزلي: أين ينتهي النقد المشروع لإسرائيل وأين يبدأ التحريض ضد اليهود؟ فقد شددت هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية على ضرورة حماية الحق في التعبير والاحتجاج، لكنهما حذرتا في بيانات مشتركة من انزلاق الخطاب إلى مستوى يعيد إحياء أشباح الكراهية الدينية.
وأوضح المجلس التنفيذي لليهود الأستراليين أن ما يفاقم الأزمة هو استخدام الإنترنت ووسائل التواصل كأداة لنشر رسائل تحريضية تستهدف اليهود بصفاتهم الدينية، وليس فقط إسرائيل كدولة.
قلق في الداخل الأسترالي
شعور انعدام الأمان هذا لم يبقَ حبيس الجدران المغلقة للمراكز المجتمعية، فقد أعلنت مدارس يهودية في أستراليا عن خطط لتعزيز الإجراءات الأمنية حول أسوارها، وانتقلت بعض العائلات إلى أحياء يعتبرونها أكثر أمانًا، بينما صرّحت عائلات أخرى بأنها أصبحت تمنع أبناءها من ارتداء القلنسوة أو حمل رموز دينية في الأماكن العامة.
وتفيد تقارير إعلامية بأن الشرطة الأسترالية تعاملت مع بلاغات شبه يومية حول تهديدات ضد أفراد يهود منذ أكتوبر 2023.
تحركات رسمية
أمام هذا التصاعد اللافت، أطلقت الحكومة الأسترالية خطة لمكافحة معاداة السامية في مارس 2024، خصصت لها ميزانية تُقدّر بنحو 32.5 مليون دولار لتعزيز أمن المدارس والمعابد والمراكز الثقافية، كما عيّنت مبعوثة خاصة لمكافحة الكراهية الدينية، هي جيليان سيغال، وهي خطوة اعتبرها كثيرون ضرورية لكنها غير كافية.
وتسعى السلطات حاليًا لفرض قيود قانونية صارمة على استخدام الرموز النازية وخطابات الكراهية في الجامعات، وسط مطالب من قيادات الجالية اليهودية بتشديد العقوبات على الجرائم ذات الدوافع الدينية.
ارتدادات اقتصادية واجتماعية
لم تقتصر التداعيات على الجانب الأمني، بل امتدت إلى تأثيرات اقتصادية ملحوظة، يوضح جوش فرايدمان، رجل أعمال من ملبورن في تصريحات إعلامية، أن بعض الشركات اليهودية تعرّضت لمقاطعات منظمة عبر الإنترنت، شملت حملات تدعو لمقاطعة محال يملكها يهود، بزعم معاقبة إسرائيل اقتصاديًا.
يقول فرايدمان: في النهاية نحن مواطنون أستراليون قبل كل شيء، مستنكرًا خلط القضايا الخارجية مع وجودهم كمواطنين يعيشون في مجتمع علماني متعدد الثقافات.
وعلى مستوى القانون الدولي، يربط خبراء الأمم المتحدة بين موجة معاداة السامية في أستراليا وموجات مماثلة اجتاحت دولًا أخرى بعد حرب غزة، محذرين من خطورة استغلال النزاعات الإقليمية في تأجيج كراهية دينية، وطالبت الأمم المتحدة السلطات الأسترالية بالوفاء بالتزاماتها في حماية الأقليات الدينية وفق مواثيق حقوق الإنسان.
ما الذي يخشاه يهود أستراليا اليوم؟
يقول جيريمي جونز، أحد المحامين البارزين في مجال مناهضة الكراهية: المشكلة لا تنتهي مع توقف الحرب، بل يبدأ التحدي الأكبر وهو كيف نعيد بناء الثقة؟، ويشير إلى أن بعض أشكال الكراهية تتحوّل إلى ثقافة كامنة يصعب اقتلاعها إذا تُركت دون مواجهة قانونية ومجتمعية جادة.
في النهاية، يجد يهود أستراليا أنفسهم محاصرين بين صراعات الشرق الأوسط، وحملات كراهية على أراضيهم، وخوف مستمر من أن يصبح النقد السياسي ذريعة للكراهية الدينية، وهم يطالبون اليوم بأن تترجم وعود الحماية إلى واقع ملموس، حتى لا يظل شعور انعدام الأمان رفيقًا دائمًا لجالية أسهمت تاريخيًا في بناء المجتمع الأسترالي الحديث.
تسلسل زمني للحوادث
أظهرت أحدث بيانات صادرة عن المجلس التنفيذي ليهود أستراليا، وهو مظلة لليهود في الدولة، أنه، منذ ذلك الحين، وحتى أكتوبر 2024، تم تسجيل أكثر من ألفَي واقعة مرتبطة بمعاداة السامية في أستراليا.
وفي ما يلي بعض الوقائع الرئيسية:
25 مايو 2024: رسوم غرافيتي على جدران في أكبر مدرسة لليهود في أستراليا بملبورن.
13 أكتوبر 2024: رسوم غرافيتي معادية للسامية على جدران مخبز لليهود في سيدني، مع ترك رسالة لصاحب المخبز تقول: كن حذراً.
21 نوفمبر 2024: إحراق سيارات وتخريب مبانٍ في شرق سيدني، وهي منطقة يسكن بها عدد كبير من اليهود.
6 ديسمبر 2024: إضرام النار في كنيس أداس إسرائيل في جنوب ملبورن، وتعاملت الشرطة مع الواقعة على أنها هجوم إرهابي مشتبه به.
7 ديسمبر 2024: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقول إن الهجمات المعادية للسامية في أستراليا مرتبطة بدعم حكومتها لقرار للأمم المتحدة يؤيد قيام دولة فلسطينية.
9 ديسمبر 2024: إطلاق فرقة عمل تابعة للشرطة الاتحادية لمواجهة الجرائم المرتبطة بمعاداة السامية.
11 ديسمبر 2024: إحراق سيارات وتخريب مبانٍ في شرق سيدني.
7 يناير 2025: توجيه اتهام لرجل بعد أن تردد أنه هدد مصلين بالقرب من كنيس في شمال سيدني.
10 يناير 2025: رسوم غرافيتي تشمل الصليب المعقوف على جدران كنيس في جنوب سيدني.
11 يناير 2025: رسوم غرافيتي على جدران كنيس في غرب سيدني ومحاولة لإضرام النار به. كريس مينز رئيس حكومة ولاية نيو ساوث ويلز يصف الهجوم بأنه تصعيد في الجرائم المعادية للسامية. وضع رسوم غرافيتي معادية للسامية على سيارات ومنازل في غرب سيدني.
16 يناير 2025: فريق العمل الاتحادي المعني بمعاداة السامية ينفذ أول عملية اعتقال، موجهاً الاتهام إلى رجل من سيدني بإصدار تهديدات بالقتل والتخريب.
17 يناير 2025: إضرام النار في سيارتين وتعرض منزل في شرق سيدني كان يملكه أحد زعماء الجالية اليهودية للتخريب.
19 يناير 2025: مينز يعلن عن قوانين لتعزيز الحماية من خطاب الكراهية وحظر الاحتجاجات خارج دور العبادة.
21 يناير 2025: وضع رسوم غرافيتي على جدران مركز لرعاية الأطفال في شرق سيدني وإضرام النار فيه. الشرطة توجه اتهاماً لامرأة على خلفية هجوم وقع في 11 ديسمبر. رئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي يعلن عقد اجتماع للحكومة رداً على تصاعد معاداة السامية.
29 يناير 2025: شرطة نيو ساوث ويلز تقول إنها عثرت على مقطورة مليئة بالمتفجرات في شمال غربي سيدني.
السلطات تقول في وقت لاحق إنها كانت خطة زائفة وضعتها شبكة للجريمة المنظمة لمهاجمة كنيس يهودي في سيدني، بهدف تشتيت موارد الشرطة.
12 فبراير 2025: السلطات الأسترالية تعلن إيقاف ممرض وممرضة في مستشفى بسيدني عن العمل، بسبب تهديدهما بقتل مرضى يهود ورفض علاجهم، بحسب مقطع على تطبيق تيك توك، ما دفع الشرطة إلى فتح تحقيق.
4 يوليو 2025: فرار 20 مصلياً خلال عشاء السبت اليهودي في كنيس شرق ملبورن من حريق وصفته الشرطة بأنه متعمد، وألقي القبض على رجل وجرى اتهامه بارتكاب جرائم مختلفة، وتحقق السلطات في ما إذا كانت الواقعة مرتبطة باضطراب وقع في الليلة نفسها بمطعم إسرائيلي في المدينة.