شهود بلا حماية.. صحفيو غزة بين نيران القصف وجحيم الجوع
شهود بلا حماية.. صحفيو غزة بين نيران القصف وجحيم الجوع
في غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني إنسان تحت نيران حربٍ متواصلة منذ أكتوبر 2023، يعيش الصحفيون الفلسطينيون واقعًا مزدوج القسوة: التهديد المباشر بالموت من القصف الإسرائيلي، والموت البطيء بسبب الجوع. في وقتٍ حُجِب فيه المراسلون الدوليون عن القطاع أصبح الصحفيون المحليون المصدر الوحيد لنقل الحقيقة، وإن كان ذلك ببطون خاوية وأجساد تضعف كل يوم.
وفقًا لما نقلته، صحيفة "فاينانشال تايمز"، اليوم الاثنين، عن لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، فإن "الصحفيين في غزة يموتون جوعًا"، حرفيًا، تقول جودي جينسبيرج المديرة التنفيذية للجنة إن الجوع بات يؤثر بشكل مباشر على قدرة الصحفيين على تغطية الأحداث، مشيرة إلى حالات فقدان وعي خلال البث المباشر، وإلى أعراض هزال وتشوش ذهني تحول دون مواصلة العمل.
وأضافت جينسبيرج: "الصحفيون الذين عملنا معهم يواصلون مهامهم رغم أن بطونهم خاوية، وأجسادهم تضعف كل يوم".
مع حظر إسرائيل دخول المراسلين الأجانب منذ بداية الحرب، لم يبق في القطاع سوى الصحفيين الفلسطينيين، الذين صاروا يتحملون عبء التغطية وحدهم، تصف الغارديان ذلك بأنه "عبء لا يُطاق"، إذ إن هؤلاء الصحفيين لا يستطيعون مغادرة غزة حتى حين يصابون أو تتدهور صحتهم بشكل حرج.
وتوثق اللجنة حالات نزوح متكرر لهم، وانقطاع الاتصال، وتلف المعدات، ونقص التغذية الحاد الذي وصل إلى حد الانهيار الجسدي الكامل.
تحركات داخل القطاع
في تقريرٍ لـ"التايم"، نقلت المجلة عن المصور الصحفي بشار طالب، العامل مع وكالة فرانس برس منذ 2010، أنه فقد 15 كيلوغرامًا من وزنه خلال أسابيع، وبدأ يخطط لتحركاته داخل القطاع بناءً على قدرته البدنية فقط.
وقال طالب: "الجوع أصعب ما مررت به في حياتي. نحن نختار بين الموت جوعًا أو القتل في طوابير المساعدات".
وكتب أنس الشريف، مراسل الجزيرة، منشورًا وصفته الغارديان بالمفجع: "أغرق في الجوع، وأرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يُلاحقني في كل لحظة.. غزة تموت. ونحن نموت معها".
وأفادت اللجنة أن الجيش الإسرائيلي صعّد من اتهاماته ضد الشريف، زاعمًا أنه ينتمي إلى حركة حماس، رغم نفي كل من الشريف ولجنة حماية الصحفيين لذلك، معتبرين تلك الاتهامات تُشكّل تبريرًا محتملًا لاستهداف الصحفيين وقتلهم.
في حادثة أخرى، أغمي على الصحفية سالي ثابت بعد بث مباشر، بسبب الجوع. قالت للجنة إنها لم تتناول أي طعام في ذلك اليوم، وتم نقلها إلى المستشفى حيث تلقت محلولًا وريديًا لإنقاذ حياتها. ثابت، وهي أم لثلاثة أطفال، قالت إنها وبناتها "يتضورن جوعًا"، مشيرة إلى أن الجوع لم يعد استثناءً بل القاعدة بين زملائها.
أرقام مفزعة
منذ اندلاع الحرب، قُتل ما لا يقل عن 178 صحفيًا فلسطينيًا، وفقًا لإحصاءات لجنة حماية الصحفيين، التي تؤكد أن هذا الرقم يجعل من عام 2024 الأكثر دموية على الإطلاق للصحفيين منذ بدء تسجيل البيانات، مع عدم محاسبة أي من المتورطين في تلك الانتهاكات، رغم وجود أدلة على أن العديد من الهجمات كانت موجهة عمدًا ضد الصحفيين.
تقول جينسبيرج: "إسرائيل تُشوّه سمعة الصحفيين بوصفهم إرهابيين دون دليل، ما يُعرّضهم للخطر، ويمهّد لتبرير استهدافهم جسديًا".
ومن جانبها أعلنت نقابة الصحفيين الفلسطينيين في مايو، عن ارتفاع حصيلة الشهداء في صفوف الصحفيين والعاملين في المجال الإعلامي في قطاع غزة إلى 221 شهيدًا، وذلك عقب استشهاد الزميل معتز محمد رجب إثر استهدافه من قبل قوات الجيش الإسرائيلي خلال تغطيته للأحداث في مدينة غزة.
وتشير "التايم" إلى أن القيود الإسرائيلية على المساعدات دفعت قطاع غزة إلى "دوامة خطيرة"، حيث تقلّصت نقاط توزيع الغذاء من 400 نقطة إلى أربع فقط، تخضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي، كما تُقيد إسرائيل برنامج الأغذية العالمي بتقديم 1600 سعر حراري فقط للفرد يوميًا، أي أقل بكثير من الحد الأدنى الإنساني البالغ 2100، وهذا، بحسب الأمم المتحدة، لا يُمثّل فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل يُخالف المبادئ الإنسانية الأساسية، ويؤسس لنظام "توزيع غامض وغير عادل".
يصف بشار طالب، في حديثه لـالتايم، كيف يدفع الصحفيون رسومًا باهظة لسحب أموالهم، حيث قال: "عندما أذهب لسحب 1000 دولار من حسابي، لا أحصل إلا على 550 دولارًا نقدًا"، ومع أن بعض المؤسسات، مثل رويترز، أكدت تقديم دعم مالي للصحفيين، إلا أن ذلك لم يُترجم إلى طعام؛ "لأنه ببساطة لا يوجد ما يُشترى".
قلق بالغ من المجاعة
عبّر منشور مشترك لوكالات الأنباء العالمية -رويترز، أسوشيتد برس، فرانس برس، وبي بي سي- عن "قلق بالغ من أن المجاعة باتت من بين المخاطر التي يواجهها الصحفيون في غزة".
وتقول جينسبيرج في ظل هذه الأوضاع: "يموت الصحفيون أمام أعيننا، والمجتمع الدولي يمتلك المعلومات الكافية لوقف ذلك.. نعلم ما يحدث، لأن الصحفيين وثّقوه، وإذا لم نتحرك الآن، فلن يبقى في غزة أحد ليروي الحقيقة".
وتحذر "الغارديان" من أن ما يحدث في غزة "ليس مجرد مأساة إنسانية"، بل عملية إسكات ممنهجة تهدف إلى إخماد صوت الحقيقة، باستخدام الجوع أداة قمع، وتختم جينسبيرج مقالها: "لا أحد من الصحفيين يريد أن يصبح محور القصة.. لكن إذا لم يتحرك العالم، فلن يبقى من يروي قصص الآخرين".
وتشير لجنة حماية الصحفيين، إلى أن "الصمت الدولي" يضفي شرعية ضمنية على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، فرغم كل التقارير، لم يتم فتح أي تحقيق دولي جاد بشأن استهدافهم أو حرمانهم من الغذاء، أو حرمانهم من الحق في التنقل، أو حتى الاعتراف بدورهم الحيوي في إيصال المعلومات للعالم.