رعب المستوطنين.. صرخة قرية مسيحية بالضفة الغربية تروي قصة الأرض والإنسان
رعب المستوطنين.. صرخة قرية مسيحية بالضفة الغربية تروي قصة الأرض والإنسان
في قلب الضفة الغربية المحتلة، حيث تتشابك خيوط التاريخ والدين والصراع، تتجلى أزمة عنف المستوطنين الإسرائيليين كجرح نازف يؤرق الفلسطينيين ويُهدد أمنهم ووجودهم، ففي هجوم وحشي طال "قرية الطيبة المسيحية" الهادئة قرب رام الله، استيقظ السكان على مشاهد مرعبة من مركبات محروقة، وجدران مشوهة بعبارات الكراهية العنصرية، في هجوم وصفته الحكومة الفلسطينية بأنه "إرهابي".
هذه الحادثة، التي تؤكدها شهادات السكان مثل الصحفي جريس عازار الذي نجا وعائلته من الاختناق، ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من الاعتداءات الممنهجة، تُروى فصولها يوميًا في تقارير المنظمات الحقوقية والأممية، لتكشف عن واقع مرير يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، ويثير تساؤلات خطيرة حول العدالة، وحماية المدنيين، ومستقبل السلام في المنطقة.
استراتيجية للترهيب والتهجير
ما حدث في الطيبة، وما سبقها في قرية المغير وغيرها من القرى والبلدات الفلسطينية، ليس مجرد حوادث فردية عابرة، بل هو جزء من نمط سلوكي يهدف إلى ترهيب السكان وتهجيرهم من أراضيهم، وتوسيع نفوذ المستوطنات.
يعيش نحو نصف مليون مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، إلى جانب ثلاثة ملايين فلسطيني، وتُعدّ جميع هذه المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي.
تأخذ هجمات المستوطنين أشكالًا متعددة، غالبًا ما تتسم بالوحشية والعنصرية منها الاعتداء على الممتلكات وتشمل هذه الاعتداءات حرق المركبات والمنازل والممتلكات الزراعية، وتدمير المحاصيل وأشجار الزيتون التي تُعدّ مصدر رزق أساسياً لعائلات فلسطينية، تُضاف إليها كتابة شعارات عنصرية وتهديدات على الجدران، مما يزيد من حجم الضرر النفسي والمعنوي.
وتتضمن الاعتداءات الجسدية حيث يتعرض الفلسطينيون لاعتداءات جسدية مباشرة من المستوطنين، تتسبب في إصابات متفاوتة، وأحيانًا تؤدي إلى الوفاة، كما وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) مقتل ثلاثة أشخاص خلال شهري يونيو ويوليو الحالي فقط.
ويستهدف المستوطنون مصادر المياه الفلسطينية، مثل الآبار، ويقومون بتدميرها أو السيطرة عليها، مما يحرم المجتمعات الفلسطينية من حقها الأساسي في الحصول على المياه.
ويشكو الفلسطينيون باستمرار من تقاعس الجيش الإسرائيلي عن حمايتهم من هجمات المستوطنين، بل وفي بعض الحالات، يقدم الجيش الحماية للمستوطنين أثناء تنفيذ اعتداءاتهم، هذه الحماية، أو غياب التدخل، يمنح المستوطنين شعورًا بالإفلات من العقاب ويشجعهم على الاستمرار في أعمال العنف.
حياة في مهب الخوف
تتجاوز تداعيات عنف المستوطنين الأضرار المادية لتطال جوهر حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين وأولها الحق في الحياة والأمن الشخصي حيث يتعرض الفلسطينيون لخطر دائم على حياتهم وسلامتهم الجسدية بسبب الاعتداءات المتكررة، مما ينتهك حقهم الأساسي في الحياة والأمان، إضافة إلى انتهاك الحق في المأوى والملكية حيث تؤدي الاعتداءات إلى تدمير المنازل والممتلكات، ما يهدد حق الفلسطينيين في المأوى والملكية، ويقوض سبل عيشهم.
ويتم انتهاك الحق في حرية التنقل عندما تُفرض قيود غير مبررة على حركة الفلسطينيين من خلال الحواجز العسكرية، ونقاط التفتيش، والتضييق على الطرق، ما يعوق وصولهم إلى أراضيهم ومدارسهم ومستشفياتهم.
وفي ما يتعلق بالحق في التنمية والعيش الكريم يعيق عنف المستوطنين النمو الاقتصادي الفلسطيني، ويدمر البنية التحتية، ويهدد سبل العيش، مما يؤثر سلبًا على الحق في التنمية والعيش الكريم.
وفي ما يخص الإفلات من العقاب تُعدّ ظاهرة الإفلات من العقاب أحد أبرز التحديات الحقوقية، فوفقًا لتقارير حقوقية، نادرًا ما يُحاسب المستوطنون الذين يرتكبون أعمال عنف، ما يشجع على تكرار الاعتداءات ويعمق شعور الفلسطينيين بالظلم وانعدام العدالة.
أصوات حقوقية تندد
لم تغفل المنظمات الحقوقية والأممية والصحافة الدولية عن توثيق عنف المستوطنين، وأصدرت العديد من التقارير التي تدين هذه الممارسات وتطالب بالمساءلة:
تُعدّ الأمم المتحدة من أبرز الجهات التي توثق عنف المستوطنين، فقد وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) ما لا يقل عن 27 هجومًا للمستوطنين ضد فلسطينيين بين الأول والسابع من يوليو وحده، وهو ما يبرز حجم المشكلة وتكرارها.
وتُصدر الأمم المتحدة تقارير منتظمة تدين بناء المستوطنات وتوسعها باعتباره انتهاكًا للقانون الدولي، وتدعو إلى حماية المدنيين الفلسطينيين. وقد علق السفير الألماني لدى إسرائيل، شتيفن زايبرت، على حادثة الطيبة واصفًا المستوطنين المتطرفين بأنهم "مجرمون مدانون من قبل جميع الديانات"، وهو ما يعكس الموقف الدولي الرافض لهذه الممارسات.
منظمة بتسيلم (B'Tselem): تُعدّ هذه المنظمة الإسرائيلية لحقوق الإنسان من أبرز الجهات التي توثق انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك عنف المستوطنين. وتقدم بتسيلم إحصاءات مفصلة عن الهجمات، وتفاصيل عن فشل السلطات الإسرائيلية في محاسبة الجناة.
ودعت هيومن رايتس ووتش مرارًا الحكومات حول العالم إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف التوسع الاستيطاني وعنف المستوطنين، وتقديم الجناة إلى العدالة، وسلطت الضوء على سياسات إسرائيل التمييزية في الضفة الغربية التي تسهل اعتداءات المستوطنين.
وبدورها أدانت "العفو الدولية" عنف المستوطنين باعتباره جزءًا من نظام القمع والتمييز الذي يُمارس ضد الفلسطينيين، ودعت إلى إنهاء الاحتلال، وضمان حماية المدنيين، والتحقيق في جميع الجرائم ومحاسبة مرتكبيها.
انتهاكات متزايدة
تحتل إسرائيل الضفة الغربية منذ حرب عام 1967، ومنذ ذلك الحين، قامت ببناء مئات المستوطنات، التي تُعدّ غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتشكل عقبة رئيسية أمام حل الدولتين. على مر العقود، تزايد عدد المستوطنين بشكل مطرد، وتصاعدت وتيرة العنف الذي يمارسونه، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت حوادث "دفع الثمن" (أي مهاجمة الفلسطينيين وممتلكاتهم ردًا على أي إجراءات تتخذها السلطات الإسرائيلية ضد المستوطنين) أكثر شيوعًا.
تُظهر الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية زيادة مقلقة في وتيرة وشدة هجمات المستوطنين. فإلى جانب الـ27 هجومًا التي وثقها مكتب أوتشا في الأسبوع الأول من يوليو، والوفيات الثلاث في يونيو ويوليو، فإن عام 2023 شهد ارتفاعًا غير مسبوق في عدد الهجمات، وهذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصاءات جافة، بل هي مؤشرات على تفاقم أزمة إنسانية تُضاف إلى واقع الاحتلال المعقد.
يذكر أن قرية الطيبة التي يناهز عدد سكانها 1300 نسمة وجميعهم من المسيحيين، تُعد مقصدا للحج المسيحي حيث توجد فيها كنيسة القديس جاورجيوس البيزنطية التي يعود تاريخها للقرن الخامس ميلادي والتي استهدفت أيضا من قبل المستوطنين.
وتشتهر القرية بوجود أقدم مصنع للنبيذ في الأراضي الفلسطينية، ويتمتع العديد من سكانها بجنسية مزدوجة ومنها الأمريكية.