شاشات بلا مساواة.. الهواتف الذكية تزيد التهميش وتعمّق الفجوة الرقمية

شاشات بلا مساواة.. الهواتف الذكية تزيد التهميش وتعمّق الفجوة الرقمية
القراءة- أرشيف

في عالمٍ بات فيه الاتصال بالإنترنت شبه شامل، تُخفي التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الهواتف الذكية، أزمةً معرفية متفاقمة تُهدد حقوق الإنسان الأساسية في التعليم والمشاركة الفعّالة في الحياة العامة، فرغم ما يبدو ظاهريًا من ديمقراطية الوصول إلى المعلومات، تكشف تقارير حديثة عن انقسام معرفي عميق يُعيد تشكيل مشهد اللامساواة، ليس على أساس الامتلاك أو الاتصال، بل على أساس القدرة على التركيز والتفكير والقراءة المتعمقة.

"التفكير أصبح سلعة فاخرة"، بهذه العبارة اللافتة تفتتح الكاتبة ماري هارينغتون مقالها في "واشنطن بوست"، مشيرة إلى تحولٍ خطير في علاقة الإنسان بالمعرفة، قادته الهواتف الذكية التي، وإن كانت قد قدمت إمكانية الوصول إلى المعلومات، إلا أنها في الواقع قوضت قدرة الأفراد على استيعابها بعمق.

بحسب هارينغتون، تنقل الهواتف الذكية المستخدمين من بيئة القراءة المطوّلة إلى بيئة رقمية تُغذي الاستهلاك السريع للمعلومة، ما يعزز من أنماط التشتت الذهني، ويُضعف الذاكرة والانتباه، لا سيما بين الفئات الأفقر، مشيرة إلى أن اختبارات محو الأمية أظهرت تراجعًا واضحًا في قدرات القراءة لدى الأطفال والبالغين في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، خاصة بين الشرائح الفقيرة، رغم ارتفاع نسب الوصول إلى الإنترنت.

ونشرت صحيفة "فايننشال تايمز" تقريرا يعزز هذا الطرح، إذ يُظهر تراجعًا عالميًا في معدلات القراءة الترفيهية بين الأطفال والمراهقين، فقد انخفضت نسبة من يستمتعون بالقراءة إلى أدنى مستوياتها منذ 20 عامًا.

وتؤكد كيت توغويل، إحدى المعلمات المشاركات في التقرير، أن الأطفال اليوم محاطون بأجهزة ووسائط تسرق انتباههم ووقتهم، على حساب القدرة على القراءة والتفكير المنطقي.

ويحذر باحثون تربويون في منصة "ساينس دايركت" الهولندية، من أن الأطفال الذين يقضون وقتًا طويلاً أمام الشاشات، يعانون من تدهور في الذاكرة العاملة، وسرعة المعالجة، ومهارات الانتباه واللغة، وكلها أساسية في تكوين الإنسان المتعلم والمشارك في المجتمع.

تدهور هذه القدرات له انعكاسات مباشرة على العدالة الاجتماعية، كما تقول دراسة نُشرتها كلية التربية بجامعة "واشنطن"، فالفقراء –رغم امتلاكهم هواتف ذكية– يعجزون عن الاستفادة المعرفية منها مقارنة بالأغنياء الذين يستطيعون خلق بيئات تكنولوجية صحية لأطفالهم، إن القراءة المطولة ليست مهارة تلقائية، بل تُكتسب في بيئات داعمة، وهو ما يُعزز التفاوت الطبقي في زمن التكنولوجيا.

الطبقية المعرفية

تشير الكاتبة هارينغتون إلى ما تسميه "نُخبة اللاشاشة"، وهي مجموعات من النخبة الاجتماعية التي بدأت تقييد استخدام أطفالها للهواتف الذكية، عبر إرسالهم إلى مدارس تحظر هذه الأجهزة أو توظيف مربيات يوقعن على عقود تمنع إدخال الهاتف إلى حياة الطفل. 

في المقابل، تعتمد آلاف الأسر الفقيرة على الشاشات كوسيلة إلهاء ضرورية في ظل ضغوط اقتصادية ومعيشية خانقة.

وقد بلغ الأمر حدّ أن تتحول القدرة على التركيز إلى مهارة محجوزة للنخبة، بينما يتلقى الآخرون –الأغلبية– "تغذية معرفية سريعة"، تُغرقهم في بيئة ميمات، وفيديوهات قصيرة، ومعلومات غير متماسكة، تقود إلى عقول أقل قدرة على التفكير النقدي أو تحليل السياسات.

وأخطر ما تُحذر منه هارينغتون هو الأثر السياسي لهذا الانحدار المعرفي، فالتفكير المُتعمق يُشكل أحد أعمدة الديمقراطية، ومع تراجع القدرة على قراءة نصوص طويلة، وتفشي الثقافة البصرية اللحظية، يُصبح الفرد أكثر عرضة للتأثر بالشعارات العاطفية، ونظريات المؤامرة، والحملات التضليلية، ما يفتح الباب أمام النخب الحاكمة والأوليغارشيات لاختطاف القرار السياسي دون مقاومة تُذكر من قاعدة جماهيرية باتت مشتتة وفاقدة للتركيز.

وتدعم الدراسة التي نُشرت مؤخرًا في "ساينس" دايركت هذا القلق، مؤكدة أن المجتمعات التي يتراجع فيها الوعي القرائي تشهد تراجعًا في مؤشرات المشاركة الديمقراطية، والنقاش العقلاني، ومقاومة الفساد السياسي.

العدالة التعليمية

لا تقف المشكلة عند حدود السياسة والثقافة، بل تمتد إلى المنظومة التعليمية، فقد أشار تقرير "فايننشال" تايمز إلى أن نحو ربع المدارس الابتدائية في المناطق الفقيرة في المملكة المتحدة تفتقر إلى مكتبة مدرسية.

وفي ظل غياب القدوة القرائية في البيوت، وتراجع مشاركة الأهل في قراءة القصص، تصبح التكنولوجيا هي "المعلم الأول"، ولكن دون محتوى يرفع من مستوى وعي الأطفال.

وعلى الرغم من المبادرات الحكومية، كخطة التعليم الجديدة في إنجلترا أو الدعم المالي لتحسين القراءة، فإن الفجوة المعرفية تتسع، ويرى خبراء أن السبب يعود إلى غياب النظرة الحقوقية التي تضع القراءة كحق أصيل لا يقل أهمية عن الغذاء والسكن، لا مجرد هواية أو نشاط مدرسي جانبي.

لا يخلو المشهد من محاولات للاستفادة من التكنولوجيا بطريقة إيجابية، فهناك من يُراهن على المنصات الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والكتب الصوتية، والتطبيقات المصممة بعناية لتعزيز مهارات القراءة، كما أظهرت مبادرات القراءة عبر "تيك توك" و"بوك توك" بعض النجاح في جذب الشباب إلى الكتب.

مبادرات تبقى محدودة

لكنّ هذه المبادرات تبقى محدودة إذا لم تُدمج ضمن سياسات وطنية شاملة تُدرك أن الفجوة الرقمية لم تعد تعني فقط من يمتلك الأجهزة ومن لا يمتلكها، بل أصبحت تعني من يستطيع استخدام هذه الأجهزة لاكتساب المعرفة ومن لا يستطيع.

في عصرٍ تُحتل فيه العقول بالضجيج، يصبح الحق في التركيز حقًا إنسانيًا أساسيًا، ويعد تراجع القدرة على القراءة والتحليل والوعي السياسي ليس نتيجة حتمية للتطور، بل نتيجة لاختيارات سياسية واقتصادية تجاهلت أهمية العدالة المعرفية، ومعالجة هذه الأزمة لا تقتصر على إصلاح المناهج أو توزيع الكتب، بل تتطلب إعادة تعريف مفهوم التعليم والتكنولوجيا كحق مشترك، وتوفير بيئة عادلة تُتيح للجميع –لا للنخب فقط– أن يقرؤوا ويفكروا ويتفاعلوا مع عالمهم.



 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية