دارفور تختنق بالكوليرا.. مأساة صامتة في مخيمات الموت البطيء
دارفور تختنق بالكوليرا.. مأساة صامتة في مخيمات الموت البطيء
في خضم دخان الحرب المستعرة وصوت الرصاص الذي لا يهدأ، ينهش وباء الكوليرا أجساد آلاف المدنيين في إقليم دارفور، حيث باتت المخيمات التي تؤوي الناجين من العنف مرتعًا للمرض والموت.
ليس هناك جدران تعزل الوجع، ولا ماء نقي يروي العطش، ولا دواء يكفي لمنع الكارثة من التوسع.. فقط خيام متهالكة، وأجساد أنهكها الخوف والجوع، تنتظر أن يصيبها الوباء القادم بلا رحمة، بحسب ما ذكرت المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، في بيان، اليوم الخميس.
منذ بداية تفشي الكوليرا، سُجّلت في دارفور أكثر من 4,633 إصابة مؤكدة، توفي منهم 217 شخصًا حتى الآن، هذه الأرقام، بحسب ما أكده الناطق الرسمي للمنسقية العامة للنازحين واللاجئين، آدم رجال، لا تعكس إلا جزءًا من الواقع المرعب.
وقال إنه في منطقة "طويلة" وحدها، كانت الحصيلة فادحة: 3,321 حالة إصابة، بينها 68 وفاة، بينما ما يزال 143 مريضًا يقبعون في مركز العزل بانتظار شفاء لا يبدو قريبًا، بعد أن أُدخلت 78 حالة جديدة في يومٍ واحد فقط.
الوباء يتسلل للأعماق
المأساة لا تتوقف عند حدود طويلة، إلى الغرب منها، في سفوح جبل مرة، يتسلل الوباء إلى أعماق المجتمعات المعزولة هناك.
في "قولو"، سُجلت 553 إصابة، توفي منهم 45 شخصًا، بينما سجلت "جلدو" 50 إصابة و7 وفيات، وحتى "نيرتيتي" الجبلية، لم تنجُ من وصول الكوليرا، إذ تأكدت فيها ثلاث حالات على الأقل.
وفي الجنوب، تعاني مدينة نيالا من كارثة أخرى.. مخيم كلمة، الذي لطالما كان شاهدًا على مآسي النزوح، أصبح اليوم بؤرة للمرض، مع تسجيل 435 إصابة و45 حالة وفاة، بينما في "عطاش" تم الإبلاغ عن 190 حالة و48 وفاة، وفي "دريج" سجلت 81 إصابة و4 وفيات، وحتى "مخيم السلام"، الذي كان اسمه يحمل رجاءً ما، لم ينجُ من الوباء.
حدود كارثية للأزمة
ورغم التفاوت في أرقام الإصابات، فإن القاسم المشترك بين كل هذه المواقع هو الانهيار التام للبنية الصحية، فالمخيمات، التي تعاني أصلًا من اكتظاظ سكاني، تفتقر إلى مياه الشرب الآمنة، وتغيب عنها خدمات الصرف الصحي الأساسية، فيما لا تتوفر سوى كميات محدودة من الأدوية والكوادر الطبية.
ومع اشتداد النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تفاقمت الأزمة لتبلغ حدودًا كارثية، فقد تعطّلت خطوط الإمداد، وتهجر الأطباء، وانقطعت الكهرباء والماء عن المراكز الصحية التي بالكاد تعمل في ظروف بدائية.
آدم رجال، الذي ينقل النداء من قلب الميدان، يؤكد أن الوضع الصحي "كارثي بكل المقاييس، ويهدد حياة الآلاف من النازحين واللاجئين"، مشددًا على ضرورة تدخل المنظمات الإنسانية فورًا، لتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، من مياه صالحة للشرب، وأدوية، وأدوات وقاية، بالإضافة إلى برامج توعية صحية عاجلة.
أطفال تنهشهم الحمى
لكن الاستجابة لا تزال محدودة، والموت لا ينتظر إذنًا ليدخل، يموت البعض في صمت، دون أن يُسجل اسمهم في قوائم الضحايا، أطفال صغار تنهشهم الحمى والإسهال الحاد، وأمهات يتنقلن بين خيام المرضى في محاولة مستميتة لإنقاذ فلذات أكبادهن، وشيوخ يصارعون الوباء بأجساد ناحلة، دون أن يجدوا سريرًا في مركز عزل مكتظ.
ما يجري في دارفور لا يمكن اختزاله في أرقام ولا تصريحات، إنها كارثة صحية، لكنها أيضًا مأساة إنسانية عميقة، تتداخل فيها الحرب مع المرض، والغياب الكامل للعدالة مع عجز العالم عن التدخل الفعّال.
وبينما تستمر الكارثة في التوسع، يبقى السؤال الأكبر بلا إجابة: كم من الأرواح يجب أن تُزهق، قبل أن يتحرك العالم؟