حين تصبح المدارس قبوراً.. مأساة الفلسطينيين تتفاقم وسط صمت دولي مخزٍ

حين تصبح المدارس قبوراً.. مأساة الفلسطينيين تتفاقم وسط صمت دولي مخزٍ
مدرسة تابعة لمنظمة الأونروا في غزة عليها آثار القصف الإسرائيلي

في قلب المعاناة المتواصلة التي يعيشها قطاع غزة، لم يعد للمدنيين أي مكان آمن، لم تسلم المدارس التي كانت تُعد الملاذ الأخير للنازحين من نيران القصف الإسرائيلي، إذ تحوّلت خلال الشهور الماضية من ساحات تعليمية ومراكز للإيواء إلى ميادين للموت الجماعي، فمنذ أكتوبر 2023، استهدفت القوات الإسرائيلية مئات المدارس التي لجأ إليها مدنيون فارّون من ويلات الحرب، في انتهاك صارخ لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني.

مدارس على لائحة الاستهداف

في تقرير حديث صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش الجمعة، كُشف النقاب عن سلسلة من الهجمات التي استهدفت المدارس في غزة، من بينها قصف مدرسة خديجة في دير البلح ومدرسة الزيتون ج في غزة، ولم تجد التحقيقات الميدانية للمنظمة، بما في ذلك مراجعة صور الأقمار الصناعية، وفيديوهات الضربات، وشهادات الناجين، أي دليل على وجود أهداف عسكرية داخل تلك المدارس أو بالقرب منها.

مدرسة خديجة، التي كانت تؤوي قرابة 4 آلاف نازح، قُصفت في وضح النهار، وأسفرت الضربات عن مقتل ما لا يقل عن 15 مدنيًا، بينهم أطفال ونساء، في حين سجلت وزارة الصحة في غزة 30 قتيلًا وأكثر من 100 جريح، أما مدرسة الزيتون ج، فقد شهدت مجزرة أخرى راح ضحيتها 34 مدنيًا، معظمهم من النساء والأطفال.

دمار كامل للبنية التعليمية

لا يقتصر الأمر على هجمات محدودة، بل تمثل سياسة ممنهجة لتدمير البنية التحتية التعليمية والمدنية. وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، قُصفت 10 مدارس إضافية بين 1 و10 يوليو 2025، ما أدى إلى مقتل 59 مدنيًا وتشريد عشرات الأسر مجددًا.

ووفق تقرير مشترك من "مجموعة التعليم في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، فإن 97% من مدارس غزة تضررت بدرجات متفاوتة، فيما 76% منها تعرضت لأضرار مباشرة، و92% بحاجة إلى إعادة بناء كاملة أو ترميم شامل، وهذا لا يعني فقط فقدان مأوى مؤقت، بل يعني كذلك تدمير مستقبل جيل كامل.

الرد الحقوقي والدولي

هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية ومنظمات أخرى حذّرت من أن الهجمات على المدارس -خاصة دون تقديم أي دليل على وجود أهداف عسكرية- تُعد هجمات عشوائية غير قانونية، وقد ترقى إلى جرائم حرب بموجب القانون الدولي.

في تصريح صادم، قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في يونيو الماضي إن إسرائيل "دمرت النظام التعليمي في غزة"، وإن ضرباتها ضد المدارس والمراكز الثقافية تشكل جزءًا من "هجوم واسع النطاق ضد الشعب الفلسطيني" يرتقي إلى الإبادة الجماعية.

رغم هذه الإدانات، لا تزال الولايات المتحدة ودول أخرى تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة المستخدمة في هذه الضربات، وهو ما وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه "تواطؤ غير مباشر" في ارتكاب جرائم الحرب، داعية إلى تعليق جميع مبيعات الأسلحة فورًا.

في مرمى القانون الدولي: انتهاكات ممنهجة بلا محاسبة

تُعد المدارس –بموجب القانون الدولي الإنساني– أعيانًا مدنية محمية، ولا يجوز استهدافها إلا إذا استُخدمت لأغراض عسكرية، وبشرط أن تكون الضربة متناسبة مع المكسب العسكري المتوقع. 

ومع ذلك، فإن الهجمات الأخيرة لم تُراعِ هذه الشروط، ولم تُقدَّم أي أدلة على وجود نشاط مسلح داخل هذه المدارس.

أكثر من ذلك، لم تصدر السلطات الإسرائيلية أي تحذير مسبق فعال للمدنيين قبل الضربات الأولى، ما يعزز من شبهة تعمد إلحاق الأذى بالسكان، وهي ممارسة يُجرّمها القانون الدولي.

كما يفرض إعلان المدارس الآمنة –وهو التزام دولي وقعته 121 دولة– حماية المرافق التعليمية من الاستخدام العسكري، لكنه لم يُوقَّع من قبل إسرائيل، في المقابل، أعلنت فلسطين التزامها بالإعلان منذ عام 2015.

التكلفة الإنسانية.. جراح لا تندمل وتعليم يتلاشى

في سياق إنساني أكثر مأساوية، أكدت تقارير الأمم المتحدة مقتل ما لا يقل عن 836 مدنيًا لجأوا إلى المدارس منذ بدء الحرب، بينهم عدد كبير من الأطفال، إضافة إلى أكثر من 2,500 جريح.

ولا تقتصر الكارثة على الموت والإصابة فقط، بل تشمل كذلك آثارًا نفسية مدمرة على الناجين، خاصة الأطفال، الذين عاشوا مشاهد الرعب وفقدوا أسرهم تحت أنقاض مدارسهم.

كما تشير تقارير ميدانية إلى أن بعض الهجمات اتبعت نمطًا مروعًا يُعرف باسم "الضربات المزدوجة"، حيث تُشن ضربة أولى، ثم تُتبع بضربة ثانية تستهدف من يحاول إنقاذ الضحايا، ما يزيد من عدد الضحايا ويُرهب فرق الإغاثة.

ردود الفعل.. أصوات تتعالى وسط صمت الحكومات

في الوقت الذي ترتفع فيه أصوات منظمات حقوق الإنسان، لا تزال مواقف غالبية الحكومات الغربية تراوح مكانها، وقد دعا جيري سيمبسون من هيومن رايتس ووتش إلى تحرك فوري وحاسم قائلاً: "الغارات الإسرائيلية على المدارس التي تؤوي عائلات نازحة هي عيّنة من سفك الدماء الذي ترتكبه القوات الإسرائيلية في غزة.. على الحكومات الأخرى ألا تتسامح مع هذا القتل المروع بحق المدنيين الباحثين عن الأمان".

وفي مقابل هذه الدعوات، تُواصل بعض الحكومات دعمها العسكري لإسرائيل، متجاهلة التحذيرات والوقائع المتكررة التي توثق استخدام هذه الأسلحة في انتهاك القانون الدولي.

ليست هذه المرة الأولى التي تُقصف فيها مدارس أو ملاجئ في غزة. منذ الحرب على القطاع في 2008 وحتى اليوم، وثقت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مئات الحوادث المماثلة، دون أن تشهد المساءلة أي تقدم يُذكر.

وقد رسّخ هذا الإفلات من العقاب ثقافة استهداف المدنيين باعتبارهم "أضرارًا جانبية"، متجاهلين السياق القانوني والإنساني الذي يُجرّم هذه الممارسات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية