المكسيك على مفترق طرق.. إصلاح قضائي يقوض الاستقلال ويثير قلقاً دولياً

المكسيك على مفترق طرق.. إصلاح قضائي يقوض الاستقلال ويثير قلقاً دولياً
الرئيسة المكسيكية خلال انتخابات القضاة

مع تولي القضاة الجدد مناصبهم في المكسيك مطلع سبتمبر 2025، تجد البلاد نفسها في مواجهة أزمة غير مسبوقة تتعلق باستقلال القضاء، فقد دخل تعديل دستوري حيز التنفيذ يقضي بانتخاب نصف قضاة البلاد عبر الاقتراع الشعبي، بينهم 6 من أصل 9 أعضاء في المحكمة العليا، وهذا التحول، الذي صُوّر باعتباره خطوة لتعزيز الديمقراطية، أثار موجة انتقادات حقوقية ودولية، وسط مخاوف من أن يؤدي إلى تقويض مبدأ الفصل بين السلطات وتحويل القضاء إلى أداة أكثر قرباً من السلطة التنفيذية والتشريعية.

في سبتمبر 2024، مرر الكونغرس ومجلس الشيوخ بأغلبية ائتلاف يقوده الرئيس السابق أندريس مانويل لوبيز أوبرادور وخليفته الرئيسة الحالية كلوديا شينباوم باردو، تعديلاً دستورياً جذرياً، وهذا التعديل ألغى مبدأ الحيازة القضائية مدى الحياة، وأدخل نظام انتخاب القضاة دورياً على أساس الاقتراع الشعبي المباشر.

وبموجب الإطار الجديد، تتولى لجان تقييم يعينها كل من الرئيس ومجلس الشيوخ والمحكمة العليا مهمة إعداد قوائم المرشحين، ثم يجري اختيار الأسماء النهائية عبر الاقتراع العام، وهذا النظام جعل المكسيك الدولة الوحيدة في العالم التي يُنتخب فيها جميع القضاة، وفق منظمة الدول الأمريكية.

انتخابات مشوبة بالعيوب

العملية الانتخابية الأولى التي جرت في يونيو 2025، وأسفرت عن اختيار ستة أعضاء للمحكمة العليا و800 قاضٍ فيدرالي و1800 قاضٍ محلي، شابتها عيوب جوهرية، فقد أشارت منظمة الدول الأمريكية إلى أن نسبة المشاركة لم تتجاوز 13%، وهو أحد أدنى المستويات في المنطقة، كما تحدث مراقبون عن غياب الشفافية في تمويل الحملات ونفقات المرشحين في المكسيك.

وأظهرت تقارير حقوقية أن لجان التقييم واجهت جدولاً زمنياً مضغوطاً، اضطرها إلى دراسة نحو 40 طلباً يومياً، كما استندت عملية الترشيح إلى معايير فضفاضة مثل النزاهة والسمعة، تُثبت بخطابات توصية من زملاء أو جيران، هذا الغموض فتح الباب أمام تدخلات سياسية مباشرة، خاصة مع سيطرة حزب "مورينا" الحاكم وحلفائه على الأغلبية البرلمانية.

مخاوف من التلاعب

أكثر القضايا إثارة للجدل تمثلت فيما عرف محلياً بـ"أوراق الغش" أو "الأكورديون"، وهي قوائم متداولة عبر الإنترنت تحث الناخبين على اختيار أسماء محددة مدعومة من أطراف قريبة من السلطة، هذه الظاهرة أثارت تساؤلات حول نزاهة العملية وحيادها، خصوصاً أن الأعضاء الستة الجدد في المحكمة العليا جميعهم ظهروا على هذه القوائم.

التعديل الدستوري أرسى أيضاً إنشاء محكمة تأديبية قضائية بخمسة أعضاء منتخبين شعبياً، تملك سلطة عزل القضاة أو معاقبتهم إذا اعتُبر أنهم أصدروا أحكاماً "مخالفة للدستور" أو "مناقضة للسوابق القضائية" وحذرت منظمات حقوقية من أن هذه الصلاحيات الواسعة يمكن أن تتحول إلى أداة لترهيب القضاة ودفعهم لتبني مواقف منسجمة مع السلطة التنفيذية.

مواقف حقوقية ودولية

هيومن رايتس ووتش وصفت الإصلاح بأنه يقوض استقلال القضاء في المكسيك بدل أن يعززه، معتبرة أن الهدف العملي هو جعل القضاة أكثر ولاءً للحكومة، لافتة أن الانتخابات الأخيرة أظهرت خطورة أن يتحول القضاء إلى مؤسسة خاضعة للتأثير السياسي.

المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين شدد بدوره على أن المعايير الدولية تقتضي أن تستند تعيينات القضاة إلى الجدارة والكفاءة المهنية بعيداً عن أي حسابات سياسية أو انتخابية. وأكد أن ضمان بقاء القضاة في مناصبهم واستقلاليتهم يعد شرطاً أساسياً لسيادة القانون.

من جهتها، أشارت منظمة الدول الأمريكية إلى "قصور خطير" في العملية يتمثل في غياب الشفافية وضعف مشاركة المواطنين، وهو ما يضع شرعية هذه الانتخابات موضع تساؤل.

تداعيات على سيادة القانون

تثير هذه التطورات مخاوف جدية من تأثيرها على منظومة العدالة برمتها في المكسيك، حيث يواجه القضاء تحديات مزمنة من عنف منظمات الجريمة المنظمة، وضغوط سياسية واقتصادية. وتحويل القضاة إلى منتخبين شعبيين يفتح الباب أمام حملات انتخابية ممولة وموجهة، ما يجعلهم عرضة لتأثير جماعات المصالح، سواء كانت سياسية أو إجرامية.

كما أن إخضاع القضاة للتصويت الشعبي قد يدفعهم إلى اتخاذ قرارات شعبوية، مراعاة للرأي العام أو لضمان إعادة انتخابهم، على حساب الاستقلالية القانونية، هذا يهدد مبدأ الفصل بين السلطات الذي يشكل حجر الأساس لأي نظام ديمقراطي.

لطالما كان استقلال القضاء قضية خلافية في المكسيك، ففي مطلع القرن العشرين، خضع القضاء إلى هيمنة الحزب الثوري المؤسساتي الذي حكم البلاد لعقود طويلة، ومع الإصلاحات الدستورية في تسعينيات القرن الماضي، جرى تعزيز استقلال المحكمة العليا وتكريس مبدأ الحيازة مدى الحياة للقضاة ضمانة ضد التدخل السياسي.

غير أن وصول الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور إلى السلطة عام 2018 أعاد النقاش حول ضرورة "ديمقراطية القضاء"، وطرح الرئيس الأسبق إصلاحات متكررة للحد من امتيازات القضاة، متهماً إياهم بالانحياز للنخب الاقتصادية والسياسية، ومع انتخاب خليفته كلوديا شينباوم باردو، جرى تمرير التعديل الدستوري الذي غيّر ملامح النظام القضائي بالكامل.

القانون الدولي على المحك

المعايير الدولية، بما في ذلك المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية، تؤكد أن القضاة يجب أن يُعيَّنوا على أساس الكفاءة والنزاهة، مع ضمان استمرارهم في مناصبهم بعيداً عن الضغوط السياسية. والتغيير المكسيكي، بحسب خبراء القانون الدولي، يمثل سابقة خطيرة قد تشجع أنظمة أخرى على استخدام شعار الديمقراطية لتقويض استقلال القضاء.

تبدو المكسيك اليوم أمام اختبار حقيقي لالتزامها بسيادة القانون ومبادئ الديمقراطية، فبينما يُسوّق النظام الجديد باعتباره خطوة نحو "قضاء شعبي"، يرى مراقبون أنه يفتح الباب واسعاً أمام تدخل السياسة في أحكام العدالة، ومع اقتراب موعد انتخابات النصف الثاني من القضاة في 2027، سيبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن إصلاح العملية بما يضمن نزاهتها واستقلاليتها، أم إن المكسيك دخلت بالفعل مرحلة جديدة من تقويض القضاء تحت غطاء الديمقراطية؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية