حقوقية وفنانة.. تلالينغ طبيبة ترسم ملامح الصحة العالمية من منظور إنساني
حقوقية وفنانة.. تلالينغ طبيبة ترسم ملامح الصحة العالمية من منظور إنساني
ولدت الدكتورة تلالينغ موفوكينغ في جنوب إفريقيا تحت ظلال نظام الفصل العنصري، حيث شكّل العرق والجنس حدودًا قاسية أمام أحلام السود، وخاصة النساء، في هذا السياق، نمت رؤيتها للعدالة والكرامة الإنسانية، فحملت معها منذ سنوات الطفولة إدراكًا مبكرًا بأن الصحة ليست مسألة طبية فحسب، بل حق وجودي يرتبط بالحرية والمساواة والكرامة.
درست موفوكينغ الطب في جامعة كوازولو ناتال، وهي مؤسسة تحمل اسم نيلسون مانديلا رمز النضال ضد الفصل العنصري، وفق موقع "thetricontinental".
ثم عملت في مستشفى شارلوت ماكسيكي بجوهانسبرغ، الذي حمل بدوره اسم أول امرأة سوداء تحصل على شهادة جامعية في جنوب إفريقيا، وهذه الرموز التاريخية لم تكن مجرد أسماء، بل رسائل مُلهمة دفعتها لتؤمن بأن دورها كونها طبيبة يجب أن يتجاوز جدران المستشفى ليصل إلى المجتمع وقضاياه الكبرى.
مواجهة وباء الإيدز
في بدايات عملها الطبي، وجدت نفسها في قلب أزمة وباء الإيدز الذي اجتاح جنوب إفريقيا، كانت ترى المرضى الشباب يتبعونها إلى سيارتها بعد انتهاء المناوبة، يطرحون عليها أسئلة مرتبكة حول حياتهم الجنسية وصحتهم الإنجابية، في وقت لم يكن فيه النظام الصحي أو التعليم العام يوفر لهم أي دعم معرفي، هذه اللحظات الإنسانية، التي امتزجت فيها ثقة المرضى بخوفهم، صاغت بدايات التزامها العميق بقضية الحقوق الجنسية والإنجابية.
تجربتها الشخصية كونها امرأة سوداء في بلد أنهكه التمييز جعلتها تدرك أن الهوية نفسها قد تحدد نوع الرعاية التي يتلقاها الفرد أو يُحرم منها، من هنا انطلقت في الدعوة إلى اعتبار الصحة الجنسية والإنجابية جزءًا أصيلًا من الحق في الصحة، لاحقًا ألّفت كتابًا بعنوان "دكتور ت: دليل للصحة الجنسية والمتعة"، حاولت من خلاله كسر التابوهات المرتبطة بالصحة الجنسية، معتبرة أن الحديث عن المتعة والكرامة الإنسانية لا يقل أهمية عن الحديث عن الوقاية والعلاج.
بين القطاعين العام والخاص
أدركت موفوكينغ أن نظام الرعاية الصحية في جنوب إفريقيا يعكس بوضوح الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية الموروثة من الفصل العنصري، ففي حين يحظى القطاع الخاص بإمكانات هائلة ويخدم الأغنياء، يظل القطاع العام مثقلًا بنقص الموارد ويعاني من الاكتظاظ، تاركًا ملايين الفقراء بلا رعاية كافية، بالنسبة لها، لم يكن هذا الوضع مجرد خلل إداري، بل شكل جدي من "الموت الطبي" الذي يحرم الملايين من حق أساسي في الحياة.
في عام 2020، عينها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة كمقررة خاصة معنية بالحق في الصحة، لتصبح أول امرأة وأول إفريقية تتولى هذا المنصب، وجاء تعيينها في لحظة فارقة، إذ كان العالم يواجه جائحة كوفيد-19، وتزداد الحاجة إلى أصوات تُذكّر بأن الصحة ليست رفاهية بل حق عالمي يتجاوز الحدود.
في تقاريرها الأممية، لم تتردد موفوكينغ في توثيق معاناة الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي، وانتقدت بشدة استهداف المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية خلال الحرب على غزة، رأت في ذلك "قتلًا طبيًا"، إذ يُستهدف الأطباء والممرضون ويُحرم المدنيون من أبسط حقوقهم الصحية، بالنسبة لها، ما يحدث هناك ليس مجرد خرق للقانون الدولي، بل جريمة ضد جوهر الإنسانية.
الفن مساحة للمقاومة والأمل
رغم كل المآسي التي عاينتها، وجدت موفوكينغ في الفن ملاذًا ودافعًا للاستمرار، فمنذ طفولتها ارتبطت بالموسيقى في الكنيسة ومع والدتها، وفي سنوات دراستها تأثرت بأغاني الاحتجاج التي واكبت نضال جنوب إفريقيا، وخلال جائحة كوفيد-19، لاحظت كيف أعاد الفن إنتاج نفسه عبر الحفلات الافتراضية والمدونات الصوتية، وكيف منح الناس متنفسًا للتعبير وسط العزلة والخوف.
الفن بالنسبة لها لم يكن مجرد هواية، بل وسيلة لمخاطبة العالم وإعادة تخيل ما هو ممكن، فهو يُعيد تعريف الحق في الصحة من زاوية إنسانية أعمق، تُدرك أن الحياة لا تُقاس فقط بغياب المرض، بل بوجود الفرح والمتعة والكرامة.
وترى موفوكينغ أن تجربتها كونها فتاة سوداء في ظل الفصل العنصري صاغت وعيها بمفهوم العدالة الصحية، فقد عاشت من قرب أثر التمييز العنصري في فرص العلاج، وعاينت كيف يمكن للجنس أو اللون أن يحدد المصير الصحي للفرد، وهذا الإرث جعلها تتبنى منهجًا مناهضًا للاستعمار والتمييز في كل ما قامت به لاحقًا، معتبرة أن الحق في الصحة لا يتحقق إلا بإزالة هذه البنى الظالمة.
بعد خمس سنوات في منصبها الأممي، لا تزال موفوكينغ ترى أن الحق في الصحة مهدد على نطاق واسع، من جائحة أرهقت العالم، إلى نزاعات دمرت البنى الصحية، إلى تمييز هيكلي يحرم الملايين من الرعاية، يبقى التحدي الأكبر هو تحويل الصحة من سياسة إلى واقع، وهي تؤكد أن المجتمعات بحاجة إلى مقاربة جديدة ترى الإنسان في شموليته، لا كمريض يُعالج فحسب، بل كائن يحق له أن يعيش حياة مليئة بالكرامة والمتعة.
صوت إنساني
في مسيرة تلالينغ موفوكينغ تتقاطع الطب مع الحقوق، والسياسة مع الفن، والتجربة الشخصية مع النضال العالمي، من قاعات مستشفى فقير في جوهانسبرغ إلى أروقة الأمم المتحدة، حملت رسالتها بوضوح.. الصحة ليست امتيازًا بل حق إنساني لا يمكن التفاوض عليه.
وفي عالم مثقل بالأوبئة والنزاعات، يظل صوتها شاهدًا على أن الإنسانية قادرة على إعادة تخيل ذاتها، حين تلتقي المعرفة الطبية بالوعي الحقوقي وبروح الفن المقاومة.