تحذيرات من داخل إسرائيل.. الدولة تتآكل تحت وطأة الكراهية والانقسام

تحذيرات من داخل إسرائيل.. الدولة تتآكل تحت وطأة الكراهية والانقسام
احتجاجات في إسرائيل

لم تأتِ تحذيرات المحلل العسكري الإسرائيلي أفي أشكنازي من فراغ، حين كتب في صحيفة معاريف الثلاثاء أن إسرائيل تسير في طريقها نحو الضياع ليس بفعل تهديدات خارجية كحركة حماس أو حزب الله أو إيران، بل بسبب الغباء والكراهية التي تنخر في مكونات المجتمع الإسرائيلي.

هذا التصريح غير المسبوق من داخل المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الداخلية، إذ ربط أشكنازي الانهيار المحتمل بواقع الانقسام العميق بين التيارات السياسية والدينية والعلمانية، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين من يصفون أنفسهم بالليبراليين وأنصار الحكومة اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو.

وقال أشكنازي، إن حزب الليكود الحاكم الذي كان يوماً ما حزباً صهيونياً ليبرالياً، تحول إلى حركة ظلامية تقودها شخصيات متطرفة تسعى إلى تعميق الانقسام الداخلي، مشيراً إلى أن الحزب بات يخضع “لأجندات سياسية ضيقة ويقوده أشخاص يفتقرون إلى المسؤولية الوطنية.

انقسام اجتماعي وسياسي

تبدو التحذيرات اليوم امتداداً لتصدعات بدأت منذ سنوات طويلة، لكنها تفاقمت بصورة غير مسبوقة خلال العقد الأخير، فالتوتر بين المتدينين والعلمانيين بلغ مستويات خطيرة، خاصة مع تصاعد نفوذ التيارات الحريدية المتشددة التي ترفض الخدمة العسكرية وتطالب بامتيازات مالية واجتماعية خاصة.

وقد بلغت الأزمة ذروتها في إسرائيل مع إعلان التيارات الحريدية عن نيتها تنظيم مظاهرة مليونية رفضاً لتجنيد أتباعها في الجيش، في الوقت الذي أعلن فيه بعض قيادات حزب الليكود نيتهم المشاركة في المظاهرة، ما أثار موجة غضب في أوساط الجنود وقدامى المحاربين الذين اعتبروا ذلك طعنة في ظهر المؤسسة العسكرية.

كما انعكس الانقسام على الشارع الإسرائيلي في صورة احتجاجات مستمرة منذ أكثر من عامين ضد سياسات الحكومة، وخصوصاً التعديلات القضائية التي حاولت تقليص صلاحيات المحكمة العليا، وهو ما رآه المحتجون تهديداً جوهرياً للديمقراطية وفصلاً بين السلطات.

تآكل الثقة بين الدولة ومواطنيها

تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجرتها صحيفة "هآرتس" ومعهد الديمقراطية الإسرائيلي في منتصف عام 2025، أن أكثر من 68 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن دولتهم تتجه نحو مسار خاطئ، وأن 59 في المئة فقدوا الثقة بالمؤسسات السياسية، في حين يرى نحو نصف المستطلعين أن الجيش نفسه أصبح أداة بيد السياسيين.

ويرى خبراء أن هذا التآكل في الثقة يضع إسرائيل أمام أخطر اختبار داخلي منذ تأسيسها عام 1948، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، فالفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع باطراد، مع ارتفاع تكلفة المعيشة وتراجع الخدمات العامة، في حين تنشغل الحكومة بصراعات أيديولوجية حول الدين والهوية أكثر من اهتمامها بالتحديات المعيشية اليومية للمواطنين.

دور المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني

لم يقتصر التحذير من الانقسام على المحللين السياسيين، بل امتد إلى منظمات المجتمع المدني داخل إسرائيل نفسها، فقد أصدرت منظمة بتسيلم الحقوقية بياناً وصفت فيه ما يجري بأنه انهيار للقيم الديمقراطية التي تأسست عليها الدولة، محذّرة من أن السياسات الحكومية تغذي بيئة من الكراهية والتطرف وتقلل من قدرة المواطنين على التعبير الحر والمساءلة.

أما الجمعية الإسرائيلية للحقوق المدنية (ACRI)، فدعت إلى وقف ما وصفته بالتضييق المتعمد على المنظمات الحقوقية والإعلام المستقل، مشيرة إلى أن الحكومة تستخدم التشريعات الجديدة لتقييد حرية التظاهر والاحتجاج، وهو ما يهدد بتحويل إسرائيل من دولة ديمقراطية إلى دولة بوليسية.

مركز عدالة، المعني بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل، اعتبر أن التوتر الداخلي ليس مجرد خلاف سياسي بل أزمة هوية وطنية، موضحاً أن السياسات الحكومية الأخيرة تدفع نحو تمييز منهجي وتقويض مبدأ المساواة أمام القانون.

كما حذّرت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان من أن الانقسام السياسي والتمييز في توزيع الموارد الصحية يضرب المنظومة الطبية الإسرائيلية من الداخل، في ظل تقارير تتحدث عن نقص التمويل في المستشفيات العامة وتراجع الثقة في النظام الصحي الرسمي.

تحذير من انهيار الديمقراطية

على الصعيد الدولي، دعت منظمة هيومن رايتس ووتش الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى مراقبة الأوضاع الداخلية في إسرائيل، مشيرة إلى أن “تآكل سيادة القانون والتضييق على المنظمات الحقوقية يشيران إلى تحوّل مقلق في بنية الحكم”.

وأكدت المنظمة أن استمرار الحكومة في تأجيج الكراهية ضد فئات داخلية، سواء كانت سياسية أو دينية أو قومية، يهدد بانزلاق البلاد نحو صراع داخلي مفتوح.

وفي السياق ذاته، عبّرت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها من تراجع الحريات العامة في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، داعية السلطات إلى “وقف الإجراءات التشريعية التي تضعف استقلال القضاء وحرية الصحافة.

جذور الأزمة

يرى مؤرخون أن الأزمة الحالية ليست طارئة، بل متأصلة في بنية الدولة منذ نشأتها، حيث تأسست إسرائيل على مزيج من الهويات المتنافسة: بين اليهود القادمين من أوروبا الشرقية والغربية، وبين الشرقيين (المزراحيم) والأشكناز، وبين العلمانيين والمتدينين.

وقد ظلت هذه التناقضات كامنة لسنوات، لكنها تفجرت مع تزايد سيطرة التيارات الدينية والقومية على مفاصل الحكم منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين عام 1995 على يد متطرف يميني.

ومع صعود نتنياهو إلى الحكم لمدد طويلة، تعمق الانقسام أكثر، إذ وُصفت سياساته بأنها تقوم على تأجيج الصراع الداخلي لتأمين بقائه السياسي، وتُظهر تقارير أن الخطاب الإعلامي الرسمي بات يعتمد بشكل متزايد على شيطنة المعارضين ووصفهم بـالخونة أو اليسار المتواطئ.

تداعيات الانقسام على المستقبل

تتفق تحليلات مراكز الأبحاث، مثل معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، على أن الانقسام الداخلي يضعف قدرة إسرائيل على مواجهة التحديات الإقليمية والخارجية، إذ ينعكس مباشرة على أداء الجيش والاستخبارات، ويقوّض صورة إسرائيل كـ“ديمقراطية مستقرة”.

ويحذر الباحثون من أن استمرار الكراهية والانقسام قد يؤدي إلى تفكك اجتماعي يصعب رأبه، خاصة في حال استمرار التظاهرات والانقسامات داخل الجيش ذاته، حيث أظهرت تقارير أن بعض ضباط الاحتياط يرفضون الخدمة احتجاجاً على سياسات الحكومة.

ومع تصاعد الخطاب التحريضي وتراجع الثقة بالمؤسسات، تبدو إسرائيل أمام لحظة حاسمة: إما أن تعيد بناء مشروع وطني جامع يتسع للجميع، أو أن تسير نحو انقسام داخلي قد يكون أخطر من أي حرب خارجية خاضتها في تاريخها.

تحذيرات أفي أشكنازي لم تكن مجرد تحليل سياسي، بل صرخة من داخل النظام تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالمجتمع الإسرائيلي، كما يرى كثير من المراقبين، يواجه اليوم اختبار وجوده الحقيقي، لا في مواجهة الأعداء خارج الحدود، بل في مواجهة أعدائه في الداخل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية