البيوت الطينية.. إرث يتمسك بالأرض والتاريخ في شمال وشرق سوريا
البيوت الطينية.. إرث يتمسك بالأرض والتاريخ في شمال وشرق سوريا
تستمر البيوت الطينية في قرى إقليم شمال وشرق سوريا في مقاومة زحف العمران الحديث، لتظل شاهدة على ذاكرة الأرض وحكايات الأجداد، فهذه المباني البسيطة، التي شُيّدت من التراب والماء والقش، لا تمثل مجرد مأوى، بل تجسّد علاقة الإنسان العميقة بأرضه، وتعيد إلى الأذهان ملامح حياة ريفية متجذرة في البساطة والدفء.
ورثت نساء كثيرات في هذه القرى فنون البناء اليدوي، ومن بينهن الأربعينية جيهان الحسين من بلدة دبسي عفنان غربي مقاطعة الطبقة، التي تمثل نموذجاً حياً لحارسات هذا التراث، بحسب ما ذكرت وكالة “JINHA”، اليوم الأحد.
ورافقت جيهان والدتها منذ طفولتها وهي تمزج التراب بالماء والتبن، وتشكل قوالب اللبن الخشبية، قبل أن تجف تحت أشعة الشمس لتتحول إلى جدران تحمي أسراً كاملة.
وتؤكد جيهان أنها أحبت هذه المهنة حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتها اليومية وهويتها الشخصية.
فن صناعة اللبن
تبدأ عملية البناء بتحضير اللبن من خليط التراب والماء والقش، ثم يُترك ليكتسب تماسكاً مناسباً قبل أن يُصب في قوالب ويجفف تحت الشمس.
وتستغرق هذه المرحلة نحو خمسة أيام، في حين أن يتطلب بناء البيت كاملاً نحو خمسة عشر يوماً، بحسب حجم المنزل وعدد المشاركين.
وتلعب النساء دوراً محورياً في هذه العملية، بدءاً من إعداد اللبن وحتى طلاء الجدران والسقوف، في مشهد يعكس تمازج الحرفة بالروح المجتمعية.
خصوصية بيئية
تتميز البيوت الطينية بقدرتها على التكيف مع المناخ القاسي للمنطقة، فهي تمنح ساكنيها برودة في الصيف ودفئاً في الشتاء، نتيجة خصائص الطين الطبيعية في حفظ الحرارة والرطوبة.
كما أن موادها محلية، ما يجعل تكلفتها منخفضة مقارنة بالبناء الإسمنتي، غير أن هذه البيوت تواجه تحديات موسمية، أبرزها تسرب مياه الأمطار شتاءً، وهو ما يفرض صيانة دورية جماعية توطد من أواصر التعاون بين الجيران.
ويحرص بعض أهالي القرى، مثل البوعاصي، على تشييد بيوت حديثة الطراز باستخدام اللبن، ليجمعوا بين الأصالة والتحديث.
ويضيفون تحسينات مثل تبليط الأرضيات أو تعزيز الأسقف دون المساس بالجوهر الطيني، معتبرين أن الحفاظ على الهوية التراثية لا يتعارض مع إدخال عناصر مريحة من البناء المعاصر.
وتؤكد جيهان الحسين أن التحدي يكمن في تحقيق هذا التوازن دون فقدان روح البيت الطيني.
رسالة للأجيال
تؤمن جيهان بأن نقل هذه المعرفة للأبناء ضرورة ملحة لضمان استمرار هذا التراث، معتبرة أن البيوت الطينية ليست فقط خياراً اقتصادياً، بل هي نموذج للبناء المستدام وإلهام للمعماريين المهتمين بالبيئة.
وتقول: "كل بيت طيني هو قصة، وكل جدار يحمل بصمة من الماضي، علينا أن نعلم أبناءنا كيف يبنون بقلوبهم قبل أيديهم".