دارفور تعود إلى الواجهة.. الأمم المتحدة تحذر من تكرار مآسي الإبادة قبل عقدين
دارفور تعود إلى الواجهة.. الأمم المتحدة تحذر من تكرار مآسي الإبادة قبل عقدين
بعد أكثر من عشرين عاماً على اندلاع الحرب الدامية في دارفور، يعود المشهد الدموي ليطغى مجدداً على الإقليم السوداني، حيث أطلق المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي تحذيراً شديد اللهجة من تكرار مآسي الماضي، مؤكداً أن "جزءاً كبيراً من هذا العنف يذكرنا بما حدث قبل عشرين عاماً".
تصريحات غراندي جاءت في مقابلة مع وكالة فرانس برس نشرت الاثنين، على خلفية احتدام القتال بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، حيث أعاد النزاع الذي اندلع في أبريل 2023، بعد عامين على انقلاب 2021، إلى الواجهة صورة مأساوية من جرائم الحرب والانتهاكات واسعة النطاق، وخصوصاً في دارفور وكردفان.
من الجنجويد إلى الدعم السريع
في عام 2003، أطلق الرئيس السابق عمر البشير ميليشيات الجنجويد لسحق تمرّد في دارفور، حيث ارتكبت فظائع قُتل فيها نحو 300 ألف شخص، وشُرّد 2,5 مليون آخرون، اليوم، يبرز حميدتي، أحد أبرز قادة الجنجويد سابقاً، كأحد أقطاب الحرب الدائرة ضد الجيش، لتعود صور الاغتصاب الجماعي والتجنيد القسري للأطفال وبتر الأطراف إلى الواجهة.
بالنسبة لغراندي، فإن "الدلالات العرقية للعنف والأساليب المتبعة" تشبه إلى حد كبير ما عاشته دارفور قبل عقدين، وبذلك، يجد العالم نفسه أمام دورة متكررة من الانتهاكات، رغم أن المجتمع الدولي وعد حينها بأن "المأساة لن تتكرر أبداً".
غراندي وصف الوضع الحالي بأنه "أسوأ أزمة إنسانية في العالم". فبحسب أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، هناك نحو 12 مليون نازح، بينهم أربعة ملايين لجأوا إلى دول مجاورة مثل تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، وهي دول تعاني بدورها من هشاشة أمنية واقتصادية.
مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش في شمال دارفور، تواجه حصاراً خانقاً منذ 18 شهراً فرضته قوات الدعم السريع، مئات الآلاف من السكان هناك يعيشون "الجوع واليأس"، في واحدة من أكثر الأوضاع الإنسانية "يأساً في العالم"، وفق غراندي.
غياب الاهتمام الدولي
رغم خطورة الأوضاع، يشير المفوض السامي إلى أن الاهتمام الدولي اليوم أقل بكثير مما كان عليه قبل عقدين.. ويتساءل: "هل هو تعب؟ أم منافسة مع أزمات أخرى؟ أم شعور بأن هذه الأزمات لن تُحل أبداً؟".
إجابة غراندي كانت حاسمة: "لست متأكداً من أنّ العالم ينسى، لأنه لم ينتبه أصلاً"، وهذا التوصيف يعكس فجوة واضحة بين حجم الكارثة الإنسانية وبين حضورها في أجندة المجتمع الدولي أو وسائل الإعلام، في ظل تركيز الاهتمام على أزمات أخرى مثل غزة وأوكرانيا.
أحد أبرز المخاطر التي تواجه النازحين واللاجئين اليوم هو النقص الحاد في التمويل، حيث تعمل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بموارد أقل، نتيجة تخفيضات كبيرة في المساعدات الأمريكية والأوروبية.
غراندي حذّر من أن "حرمان الناس واللاجئين من المساعدات الإنسانية في هذا الحزام المحيط بأوروبا حيث تتكشف أزمات متعددة، هو وصفة لرؤية المزيد من الناس يغادرون باتجاه أوروبا".. الرسالة واضحة وهي أن الأزمة ليست فقط مسؤولية أخلاقية، بل هي تحدٍ استراتيجي يمسّ الاستقرار الدولي.
جرائم بلا محاسبة
جرائم الاغتصاب، والتجنيد القسري للأطفال، والهجمات على المدنيين والحصار الجماعي، كلها تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، إلا أن غياب آليات محاسبة فعالة على الساحة الدولية، كما في حالة دارفور سابقاً، يعمّق مناخ الإفلات من العقاب ويترك الضحايا بلا إنصاف.
المحكمة الجنائية الدولية كانت قد أصدرت مذكرات بحق الرئيس السابق عمر البشير ومسؤولين آخرين بتهم ارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، لكن غياب التنفيذ الفعلي لتلك القرارات يثير الشكوك حول قدرة النظام الدولي على منع تكرار السيناريو ذاته مع الجناة الجدد.
في كل مناطق النزاعات سواء في دارفور أو بورما أو غزة أو أوكرانيا، يبقى المدنيون هم الحلقة الأضعف، ولخص غراندي المأساة بقوله: "من الفظيع قول ذلك، لكن مع كل ما يحدث في العالم، حتى الرأي العام أصبح انتقائياً".
فالمعاناة في دارفور لا تقلّ عن غيرها من الأزمات، لكن ضحاياها يواجهون التجاهل الدولي والتراجع في حجم المساعدات، ما يضاعف من قسوة حياتهم اليومية.
تحذيرات المفوض السامي تفتح الباب مجدداً أمام نقاش ملحّ: كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يوقف دورة العنف المتكررة في السودان ويمنع تحوّل دارفور إلى نسخة جديدة من مآسي الإبادة الجماعية؟
الدعوات تتزايد لتفعيل أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي، وربط المساعدات بالتزامات واضحة من الأطراف المتحاربة، إضافة إلى تحريك ملفات المساءلة في المحاكم الدولية، غير أن الانقسامات الدولية وتزاحم الأزمات يهددان بجعل هذه الجهود حبراً على ورق.
الحرب في السودان
اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023 بعد تفجر الخلاف بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، نائبه السابق.
وتعود جذور الأزمة إلى سنوات من التوتر بين المؤسستين، إذ لعبت قوات الدعم السريع المنبثقة عن ميليشيات الجنجويد دوراً رئيسياً في النزاع بدارفور منذ مطلع الألفية، قبل أن تندمج شكلياً في الجيش.
الصراع تفجّر مع تعثر مفاوضات الانتقال الديمقراطي بعد سقوط نظام عمر البشير عام 2019، ما أدخل البلاد في أتون حرب مدمرة أودت بحياة عشرات الآلاف ودفعت الملايين للنزوح داخلياً وخارجياً، وسط مخاوف دولية من تحوّل السودان إلى ساحة صراع وأزمة إنسانية ليس لها حل.