الدعاوى الفردية توسّع الفجوة الطبقية في البرازيل.. طوق نجاة أم زيادة في المعاناة؟
الدعاوى الفردية توسّع الفجوة الطبقية في البرازيل.. طوق نجاة أم زيادة في المعاناة؟
منذ دستور 1988 الذي أعاد للبرازيل إطاراً دستورياً غنياً بالحقوق الاجتماعية، تحوّل الحق في الضمان الاجتماعي إلى ساحة نزاع متكرّر بين الأفراد والدولة، وفي السنوات الأخيرة باتت المحاكم وجهة أساسية لمئات الآلاف من المواطنين الذين يلجؤون إلى مؤسسات القضاء البرازيلي للحصول على معاشاتهم ومخصصاتهم، وهو واقع يثير أسئلة حاسمة حول مبدأ المساواة وإمكانية تحقيق الحقوق عبر آليات إدارية فاعلة بدلاً من اعتماد واسع على دعاوى فردية، وتشير البيانات الرسمية إلى حجم متنامٍ من الدعاوى، ما يضع منظومة الضمان الاجتماعي والسلطة القضائية أمام تحديات تشغيلية وحقوقية لا تقلّ خطورة عن أزمات التمويل.
وفق تقرير نشره موقع "Open Global Rights" تشير إحصاءات القضاء الاتحادي في البرازيل إلى وجود ملايين القضايا المتعلقة بمنازعات الضمان الاجتماعي في السجل القضائي؛ ففي تقرير للدوائر القضائية رُصدت أعداد كبيرة من القضايا المتعلقة بالمنافع والرواتب، ووصلت عمليات التقاضي المتعلقة بالمعاشات إلى مستويات تُثقل كاهل المحاكم، كما وثّقت مصادر رسمية زيادة مستمرة في القضايا المرتبطة بصرف المزايا، إلى جانب قوائم انتظار تمتد لملايين الطلبات لدى الجهاز الإداري المختص بمنح المعاشات، وهذه الأرقام تعكس انتقال حل الحقوق من الإجراءات الإدارية إلى ساحات المحاكم، ما أضرّ بسرعة الإنجاز وأحياناً بتجانس تطبيق القانون.
كيف يكرّس عدم المساواة؟
النهج القائم على مطالبة كل مستفيد على حدة بإنفاذ حقه أمام القضاء يفضي إلى أن من يفهم النظام القانوني أو يملك وسيلة للدفع لمحامٍ ينجح في تنفيذ حكم لصالحه، فيما يبقى الأكثر هشاشة محرومين، والأدبيات القانونية تُظهر أن التقاضي الجماعي أو حلولاً إدارية منهجية هي التي تملك القدرة على معالجة خلل بنيوي واحد يضرب فئات واسعة، بينما الحلول الفردية تقنّن انتقائية العدالة وتحوّل الحكم القضائي إلى غطاء لعدم وجود سياسات عامة فعّالة، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي تكرار الدعاوى إلى تراكم الطلبات في المحاكم، وإطالة أمد الفصل في قضايا حيوية مثل معاشات كبار السن والمرضى أو المعاقين.
التأخر في صرف الحقوق أو الإحالة الطويلة للمحكمة يترجم سريعاً إلى معاناة اجتماعية يومية حيث تفقد عائلات مصدر دخل أساسي، وأطفال يتأثر تعليمهم، ومواطنون كبار في العمر يواجهون صعوبات في تأمين الرعاية الصحية الأساسية، إلى ذلك، تثقل الدعاوى القضائية المعلّقة كلفة تشغيل النظام العام وتحوّل موارد الدولة من تقديم خدمات إلى الدفاع عن قرارات إدارية أمام المحاكم، بينما تنخفض فاعلية حماية الحقوق الاجتماعية ككل وتشير بيانات حديثة إلى قوائم انتظار متزايدة للطلبات لدى الجهاز الإداري المعني، ما يؤكد أن المشكلة ليست فقط قضائية بل هي أيضاً إدارية ومالية.
ضعف المؤسسات والإدارة
الاكتشافات الأخيرة لقضايا احتيال وفساد مرتبطة بخصومات غير مبررة أو مؤسسات وسيطة أضرت بالمستفيدين تزيد من هشاشة الجهاز وتضعف ثقة الجمهور، فقد كشفت عمليات تفتيش وتحقيقات حكومية عن مخالفات واسعة أثّرت على ملايين المستفيدين داخل البرازيل، ما دفع إلى استبدالات إدارية وفتح تحقيقات على مستوى عالٍ في بعض الأجهزة المعنية، وهذا المناخ يضعف قدرة الجهاز الإداري على مواجهة الدعاوى ويزيد من التحوّل نحو المحاكم كملاذ أخير للمواطنين.
اعترافاً بمحدودية الحلول الفردية، شرع المجلس الوطني للقضاء في البرازيل في مبادرات تهدف إلى إلغاء الطابع القضائي لقضايا معينة عبر قرار مشترك يتيح استراتيجيات لتقليل عدد الدعاوى وتوسيع الحلول الجماعية أو الإدارية فالقرار المشترك رقم 4/2024 يمثل محاولة لتوجيه الملفات نحو حلول تسوية أو تنفيذ سوابق قضائية بصورة منهجية بدل أن تبقى كل حالة معزولة أمام القاضي، وهذه المبادرة اعتُبرت خطوة مرحلية مهمة، لكنها محدودة النطاق وتحتاج إلى توسيع وانفتاح مؤسساتي لتغطية الكمّ الهائل من المنازعات.
الالتزامات الدولية
الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تضع على الدولة التزاماً بضمان الحماية الاجتماعية الكافية، بما يتطلب وجود آليات إدارية فعّالة للولوج إلى الحقوق، ودعت منظمات دولية معنية بالحماية الاجتماعية والعمال إلى تعزيز النُظم الإدارية وتقوية القنوات الجماعية لتطبيق الحقوق بدل تحميل الأفراد عبء الخوض في أروقة المحاكم، وتؤكد تقارير البنك الدولي ومنظمات العمل الدولي أن الإصلاح المؤسسي والتمويل المستدام والمنهج الشامل هما الطريق للحد من إذكاء الفجوة الطبقية في البرازيل التي يولّدها الاعتماد الزائد على التقاضي الفردي، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
جمعيات حقوقية ومنظمات خبراء اعتبرت أن العدالة لا تتحقق بمجرد إصدار أحكام متفرقة إذا لم تُترجم إلى سياسات شاملة تعيد ترتيب آليات منح المزايا، وطالب دعاة حقوق الإنسان بتوسيع مقارنات حقوقية تجمع بين العمل القضائي والاستراتيجيات الإدارية، ودعم التمويل اللازم للجهات الإدارية وفتح آفاق للتقاضي الجماعي والتنفيذ الفوري للأحكام التي تقرّ حقوق أعداد كبيرة من المستفيدين، وهذه المطالب تلتقي مع رؤية اقتصادية تنشد كفاءة أكبر للنفقات وتحكم أفضل لمنع الاحتيال وإساءة الإدارة.
خلاصة وتوصيات قابلة للتنفيذ
الاعتماد على الدعاوى الفردية للوصول إلى بدل معاشي يحوّل العدالة إلى امتياز يتاح لمن يملك الوسائل، ويعمق فجوات الفقر واللامساواة، وبحسب مراقبين حقوقيين تتطلب المعالجة مسارين متكاملين: أولاً إصلاح إداري سريع يشمل تبسيط الإجراءات، ورقمنة السجلات، وتعزيز قدرات التدقيق والوقاية من الاحتيال؛ ثانياً توسيع نطاق الحلول الجماعية والتنفيذ الآلي للأحكام التي تؤسس لحقوق متكررة، وتأمين تمويل مستدام للمنظومة.
ويُوصى بتقوية الآليات القضائية الإدارية المشتركة بين القضاء والسلطة التنفيذية لتسريع التسويات دون إضرار بحقوق الأفراد، ويؤكد المراقبون أنه بدون هذه التحولات ستظل العدالة في البرازيل محصورة بمن يطرق أبواب المحاكم، بينما تبقى الغالبية تواجه عجزاً منظومياً عن تحقيق الحقوق التي نصّ عليها الدستور.