النسوية في الصين.. حقوق تُروَّج في القاعات وتُقمع في الشوارع

النسوية في الصين.. حقوق تُروَّج في القاعات وتُقمع في الشوارع
شعار حملة MeToo

يُشيد الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلماته بإنجازات النساء، لكنه في سياساته يُضيّق عليهن الخناق، حيث يحتفي في خطابه أمام القمة العالمية للمرأة في بكين بما يسميه "الإنجازات التاريخية لحقوق المرأة في الصين".

ويؤكد أن معدلات وفيات الأمهات انخفضت بنسبة تقارب 80% خلال ثلاثة عقود، وأن النساء أصبحن يشاركن في الحوكمة الوطنية "بثقة وحماس غير مسبوقين، لكن في الوقت نفسه هو من أشرف على حملة قمع واسعة للمجتمع المدني، وضعت النسويات في قلب المواجهة مع الدولة.

وكما ذكرت صحيفة "الغارديان"، أعلن الرئيس عن تبرع بقيمة 10 ملايين دولار لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وعن صندوق بقيمة 100 مليون دولار لدعم دول الجنوب العالمي، في محاولة لتلميع صورة الصين كداعم للمساواة بين الجنسين، غير أنّ هذه الأرقام البراقة تُخفي واقعًا يزداد قسوة بالنسبة للناشطات والمدافعات 

تمجيد المرأة وتجريم النسوية

يُنفّذ شي جين بينغ تحولًا أبويًا عميقًا في السياسات العامة، ففي عام 2022، أعلن عن تشكيل مكتب سياسي جديد خالٍ تمامًا من النساء، في سابقة لم تحدث منذ 1997.

وفي حين تزداد المواقف الاجتماعية ليبراليةً تجاه المساواة والطلاق، تُصرّ الحكومة على دفع النساء نحو ما تسميه "المسؤوليات التقليدية للزواج والإنجاب"، باعتبارها وسيلة لمعالجة انخفاض معدل المواليد.

يُعلن شي في عام 2023 ضرورة "ترسيخ ثقافة جديدة للزواج والإنجاب"، مُحمِّلًا النساء عبء الأزمة الديموغرافية، لا النظام الاقتصادي أو الاجتماعي.

وتُحاصر السلطات كل صوت نسوي مستقل، وتُصادر حسابات المدونات التي تطرح قضايا النساء، كما الصحيفة البريطانية إلى أن السلطات الصينية حظرت حسابات عديدة على منصات "وي تشات" و"ويبو"، بحجة "التحريض على العداء بين الجنسين"، بينما استُخدم هذا المصطلح الفضفاض لإسكات النقاش العام حول المساواة والتمييز.

ناشطات في مواجهة الحظر

تُجسّد المدونة وانغ هويلينغ من مقاطعة آنهوي الريفية قصة التحول من التعبير إلى الإلغاء، حيث عُرفت وانغ بفيديوهاتها التي ناقشت الزواج والأسرة واستقلال المرأة، وجذبت أكثر من 4 ملايين متابع على تطبيق "دويين"، وقرابة 6 ملايين عبر مختلف المنصات.

لكن مع بداية عام 2024، اختفى وجودها الرقمي بالكامل: حُذفت حساباتها، وحُظر إعادة طباعة مذكّراتها "نساء من القاعدة الشعبية" دون توضيح.

تُصر وانغ على أن السبب الحقيقي هو "الخوف من تنامي شعور الاستقلال لدى النساء".

وفقًا لتقرير نشره "دويتشه فيله"، شكّلت السنوات العشر الأخيرة مسارًا حاسمًا للحركة النسوية الصينية منذ اعتقال “النسويات الخمس” عام 2015.

حيث اعتقلت الشرطة عشية اليوم العالمي للمرأة خمس ناشطات شابات –وانغ مان، وتشنغ تشوران، ولي مايزي، ووي تينغتينغ، ووو رونغ رونغ– بتهمة "افتعال المشاجرات وإثارة المشكلات"، وهي تهمة غامضة تُستخدم لإسكات الأصوات، رغم أن هدفهن كان بسيطًا: التوعية ضد التحرش في وسائل النقل العام، لكنّ اعتقالهن شكّل نقطة تحوّل كبرى في مسار الحركة، إذ جلبت القضية اهتمامًا دوليًا وألهمت أجيالًا جديدة من النساء للحديث عن حقوقهن.

المساواة بين الجنسين

تُصرّ الناشطة لي مايزي على أن "الاعتقال رغم قسوته رفع الوعي العام بالمساواة بين الجنسين"، غير أنّ ذلك الوعي لم يترجم إلى حرية، إذ تقلّصت المساحة الرقمية المتاحة للنساء بشكل حاد، وأصبحت المنصات الاجتماعية بيئة معادية للمحتوى النسوي.

وحذفت السلطات في عام 2018 منصة "الأصوات النسوية" من "وي تشات"و"ويبو"، بزعم "الإخلال بالنظام العام، 

المنشور الذي أشعل الحظر لم يكن سياسيًا، بل حملة إلكترونية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة بعنوان "أقوى دليل ليوم المرأة" لمناهضة التحرش، وبعد الحذف، حُجبت كلمات البحث المتعلقة بالمنصة، وأُزيل شعارها من جميع المنشورات، في إشارة واضحة إلى أن النسوية نفسها باتت مصطلحًا "محظورًا".

وفي مارس 2021، أشعلت حادثة "شياو ميلي" موجة جديدة من القمع، حيث تعرضت الناشطة شياو ميلي لتحرش في مطعم بمدينة تشنغدو بعد مطالبتها رجلاً بعدم التدخين.

وانتشر الفيديو، وتحول التضامن إلى حملة عداء قومي: تُتَّهم ميلي بأنها "عدوة للدولة" بعد تداول صورة قديمة لها تحمل لافتة مؤيدة لهونغ كونغ، وتم  حظر حسابها الدائم على "ويبو"، ومُنعت من الرد أو الدفاع عن نفسها.

تتوسع الرقابة لتشمل المنصات كافة: من وي تشات إلى تاوباو ودوبان، وتُغلق أكثر من 12 مجموعة نسوية بدعوى "المحتوى المتطرف، لتتحوّل التكنولوجيا إلى أداة سياسية لإسكات المرأة التي تُعبّر، وتُجرّم الحديث عن المساواة كتهديد للأمن القومي.

MeToo بين الإلهام والسجن

وفي عام 2018 انطلقت حركة MeToo، عندما اتهمت الطالبة لو تشيان تشيان أستاذها بالتحرش في جامعة بيهانغ، لتُلهِم القضية نساءً في مختلف القطاعات، من الإعلام إلى الرياضة، ليتحدثن عن العنف المنزلي والتحرش والتمييز.

لكنّ الزخم يُقابل بردّ سريع من أجهزة الرقابة: تُضاف كلمات مثل"MeToo وmi tu  إلى القائمة السوداء في ويبو، وتُحذف المنشورات الداعمة للضحايا خلال دقائق.

وفي الصين أيضا تذكر قضية بينغ شواي، لاعبة التنس، التي اتهمت نائب رئيس الوزراء السابق بالاعتداء عليها، لتختفي منشوراتها في لحظات، وتُمنع عمليات البحث عن "التنس" أو "رئيس الوزراء وأنا".

لم تقتصر الرقابة على الإنترنت، ففي عام 2021، اعتُقلت الصحفية هوانغ شيويه تشين، إحدى أبرز وجوه MeToo، بتهمة "التحريض على تقويض سلطة الدولة"، قبل أن تُدان رسميًا في عام 2024.

وبحسب ما نقلته وكالة "أسوشيتد برس"، يُمثّل الحكم الصادر بحق الصحفية هوانغ شيويه تشين بالسجن خمس سنوات، وغرامة 100 ألف يوان (14 ألف دولار)، رسالة واضحة من الدولة بأن الدفاع عن حقوق المرأة يُعد تهديدًا سياسيًا، حيث تُحتجز هوانغ منذ 2021 مع الناشط وانغ جيان بينغ، المحكوم عليه بثلاث سنوات ونصف، في سياق حملة أوسع ضد المدافعين عن حقوق الإنسان.

تُذكّر منظمة العفو الدولية، عبر مديرة مكتبها في الصين سارة بروكس، بأن "هذه الإدانات تُخلّف تأثيرًا مُخيفًا على الدفاع الاجتماعي وحقوق الإنسان في بلد يُسجن فيه النشطاء لمجرد المطالبة بالمساواة".

تُدين بروكس ما وصفته بـ"الاحتجاز الجائر" الذي يستهدف كل من يروّج للعدالة الاجتماعية وكرامة المرأة.

وصم النسوية

يُصوّر الحزب الشيوعي الصيني النسوية كتهديد سياسي، ويُقدّمها على أنها "تأثير أجنبي" يستهدف استقرار البلاد، حيث تُوضّح لو بين، مؤسسة "الصوت النسوي"، أن "النسوية لم تعد تجد منصة آمنة داخل الصين"، مشيرة إلى أن المنظمات النسوية صُنفت كجماعات "تخريبية" لأنها ترفض أن تكون تحت وصاية الدولة.

تُضيف لي مايزي أن "النسوية الرسمية" التي يُروّج لها اتحاد نساء عموم الصين لا علاقة لها بالمساواة الحقيقية، بل تُستخدم لتكريس فكرة "المرأة الصالحة" التابعة للأعراف الأبوية.

وتواجه الصين اليوم أزمة ديموغرافية حقيقية، مع انخفاض معدلات المواليد، فتُعيد السلطة إنتاج خطابها الأبوي لتشجيع النساء على العودة إلى البيت والإنجاب، ويدعو الرئيس شي اتحاد نساء عموم الصين إلى "توجيه الشباب نحو وجهات نظر صحيحة حول الزواج والأسرة"، في وقت تُعامل فيه الدعوات إلى الاستقلالية والاختيار الحر كتهديد سياسي.

تُقرّ لي مايزي بأن الظروف الحالية "هي الأقسى منذ تأسيس الحركة النسوية الحديثة"، لكنها تُبقي على الأمل قائلة: "الحركة النسوية في الصين تتقدم على دفعات، تتعرض للانتكاسات، لكنها لا تموت. فحيث يوجد القمع، توجد المقاومة".

وتُضيف أن الحركة باتت لامركزية؛ أقل اعتمادًا على المنظمات الرسمية وأكثر اعتمادًا على شبكات دعم غير رسمية تتيح الاستمرار رغم الرقابة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية