عدالة المناخ على المحك.. كيف تختبر دعاوى الضحايا صدق التعهدات في بريطانيا؟

عدالة المناخ على المحك.. كيف تختبر دعاوى الضحايا صدق التعهدات في بريطانيا؟
مشروعات الطاقة النظيفة

في نهاية أكتوبر 2025، تزامنت قصتان متباعدتان جغرافيًا، متشابكتان أخلاقيًا: في بريطانيا، حزب العمال الذي وصل إلى السلطة بوعد "ثورة خضراء" يتراجع عن التزاماته الاستثمارية الكبرى في الطاقة النظيفة، وفي الفلبين، ناجون من إعصار مدمر يرفعون دعاوى ضد شركة شل العملاقة، متهمين إياها بالمساهمة في الكارثة من خلال انبعاثاتها التاريخية.

بين هذين المشهدين، يتجسد السؤال العالمي الملح: من يتحمل كلفة التحول البيئي، ومن يُحاسَب على تقاعس العقود الماضية؟

وفق تقرير نشرته شبكة “evrimagaci” الاثنين، يواجه زعيم حزب العمال ورئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر انتقادات متصاعدة بعد أن قلص حزبه خطته الطموحة للاستثمار الأخضر من 28 مليار جنيه إسترليني سنويًا إلى أقل من 15 مليار، وسط ضغوط مالية وخلافات داخلية حول الأولويات، كما تراجع التمويل المخصص لعزل المنازل -أحد أكثر البرامج شعبية في إستراتيجية الحزب- من ستة مليارات إلى نحو 1.3 مليار سنويًا فقط، ما أثار تساؤلات حول جدية التزامات الحكومة الجديدة تجاه تحول الطاقة والاقتصاد الأخضر.

مأزق يتجاوز الحسابات الاقتصادية

ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تعكس مأزقًا أعمق يتجاوز الحسابات الاقتصادية، فحزب العمال يرتبط تاريخيًا بمعاقل صناعية عمالية تعتمد على الفحم والصلب وأحواض بناء السفن، وهي القطاعات الأكثر عرضة لخطر التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، ويعني ذلك أن أي إصلاح بيئي جذري يهدد القاعدة الانتخابية التقليدية للحزب نفسها، وقد عبّر أحد النواب العماليين عن المفارقة بقوله: "التحول الأخضر ضروري لإنقاذ الكوكب، لكنه قد يُغرق مجتمعاتنا القديمة في البطالة".

من الناحية العملية، لم يتحقق وعد الحزب بخلق 650 ألف وظيفة خضراء حتى الآن، وتواجه الصناعات البريطانية التقليدية -مثل الصلب وبناء السفن وتكرير النفط- ضغوطًا حادة نتيجة التحول، دون أن يقابلها نمو حقيقي في قطاعات الطاقة النظيفة، فمصنع الصلب في بورت تالبوت مثلاً يواجه تسريح مئات العمال بعد الانتقال إلى الأفران الكهربائية، فيما تحوّلت مصفاة "غرانجماوث" إلى محطة استيراد بدلاً من الإنتاج المحلي، ويشير تقرير لمعهد تشارترد للاقتصاد والطاقة إلى أن "فجوة المهارات في سوق العمل البريطاني تمثل العقبة الأكبر أمام التحول الأخضر العادل"، إذ لا توجد حتى الآن بنية تدريبية كافية لتحويل عمال الفحم والصلب إلى تقنيين في مجالات الطاقة المتجددة.

في المقابل، تتزايد الانتقادات من المنظمات البيئية البريطانية التي تعتبر أن الحزب يتراجع عن التزاماته الأخلاقية، فقد قالت منظمة "أصدقاء الأرض" في بيان حديث إن "التقليص الحاد للاستثمارات الخضراء ليس مجرد خذلان سياسي، بل انتكاسة أخلاقية في وقت يحتاج فيه العالم إلى قيادة جريئة"، فيما حذر تقرير صادر عن منظمة "غرينبيس المملكة المتحدة" من أن هذا التراجع قد يُضعف مصداقية بريطانيا في مؤتمرات المناخ الدولية، خاصة مع اقتراب مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP30) المقرر عقده في البرازيل في نوفمبر 2025.

دعاوى من أجل العدالة المناخية

لكن في الطرف الآخر من العالم، يتخذ النضال من أجل العدالة المناخية شكلاً أكثر مباشرة ووجعًا، ففي الفلبين، يسعى عشرات الناجين من إعصار أوديت -الذي أودى بحياة أكثر من 400 شخص في عام 2021- إلى رفع دعوى قضائية ضد شركة شل في بريطانيا، متهمين إياها بالمساهمة في تفاقم آثار الكارثة نتيجة انبعاثاتها الكربونية الممتدة لعقود.

هذه الدعوى، التي تدعمها منظمة "غرينبيس الفلبين"، تمثل جزءًا من موجة متنامية من القضايا البيئية ضد الشركات الكبرى، إذ تشير بيانات معهد غرانثام للأبحاث إلى تسجيل 226 قضية من هذا النوع حول العالم خلال عام 2024 وحده.

تقول تريكسي إيل، إحدى الناجيات اللاتي فقدن أقاربهن في الإعصار الذي تعرضت له الفلبين، في تصريح أوردته وكالة أسوشيتد برس: "نحن لا نطلب المستحيل. نريد أن يتحمل من تسبب في دمارنا مسؤوليته، لم نختر أن نكون ضحايا لتغير المناخ، لكننا نختار أن نصبح صوتًا للعدالة".

وبحسب خبراء من كلية لندن للاقتصاد، فإن الدعوى تستند إلى بحوث علمية تربط بين زيادة حدة الإعصار والتغيرات المناخية الناتجة عن النشاط الصناعي البشري، بما في ذلك انبعاثات شركات النفط الكبرى. وتشير قاعدة بيانات "كاربون ماجورز" إلى أن شل مسؤولة عن أكثر من 2.1% من الانبعاثات الكربونية العالمية منذ الثورة الصناعية، ما يجعلها من بين أكثر عشر شركات تلويثًا للمناخ عالميًا.

من جانبها، تنفي الشركة أي مسؤولية قانونية، مؤكدة أنها تلتزم بخطط التحول إلى الطاقة النظيفة وتستثمر في الوقود منخفض الكربون، وقال متحدث باسمها: "نحن نتفق على الحاجة الملحة للعمل بشأن تغير المناخ، لكن تحميل شركة واحدة المسؤولية عن ظاهرة عالمية هو تبسيط مخل".

المساءلة المناخية

رغم ذلك، يرى خبراء القانون الدولي أن مثل هذه الدعاوى قد تُحدث تحولًا جذريًا في مبدأ "المساءلة المناخية"، فبينما ظلت الحكومات في السابق الطرف الأساسي في مفاوضات المناخ، فإن تصاعد القضايا ضد الشركات يعيد تعريف المسؤولية البيئية، ويفتح الباب أمام نظام قانوني جديد يربط بين الانبعاثات والأضرار البشرية المباشرة، ويعتبر معهد ستوكهولم للبيئة أن "هذه الموجة من التقاضي المناخي قد تؤسس لسابقة تاريخية، تجعل العدالة المناخية جزءًا من المنظومة القانونية العالمية، لا مجرد مطلب أخلاقي".

وفي ما يستعد العالم لمؤتمر المناخ القادم، تقف بريطانيا -أحد مهد الثورة الصناعية وأحد مؤسسي الاتفاقيات البيئية الكبرى- في مواجهة اختبار مزدوج: داخليًا، لتبرير تراجعها عن تعهداتها الخضراء؛ وخارجيًا، للحفاظ على مصداقيتها كدولة تزعم قيادة التحول نحو الصفر الكربوني.

أما في الجزر الفلبينية المنكوبة فينتظر الناس بصمت أن تتحول كلمات التعاطف الدولية إلى فعل قانوني ملموس يُعيد بعضًا من العدالة المفقودة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية