بين الغضب والحزن والخذلان.. أصوات الناجين من فيضانات إسبانيا تطالب بالعدالة لا بالعزاء

بين الغضب والحزن والخذلان.. أصوات الناجين من فيضانات إسبانيا تطالب بالعدالة لا بالعزاء
احتجاجات في شوارع فالنسيا تطالب بالعدالة وإقالة رئيس المدينة

جف الطين الذي كان يكسو شوارع فالنسيا، وتلاشت رائحة الممتلكات المبللة التي كانت تملأ هواء الساحل الرطب، لكن آثار أسوأ كارثة طبيعية عرفتها إسبانيا هذا القرن لا تزال محفورة في الذاكرة والجدران.

في حي بينيتوسر، عند مدخل مبنى بلا أبواب، تعلو الحائط لافتة صغيرة تذكّر باليوم الأسود: "ارتفعت مياه الفيضان إلى هذا المستوى في 29 أكتوبر 2024"، عامٌ مرّ، لكن الزمن لم يُطفئ الغضب ولا يُجفف الدموع، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.

يوم انكسرت فالنسيا

في غضون ساعات قليلة، هطلت على المنطقة أمطار تعادل ما يسقط عادة خلال عام كامل، وطفت السيارات في الشوارع، والمنازل تحولت إلى أفخاخٍ مائية، وبينما كان الناس يغرقون في مرائبهم، كان رئيس الإقليم كارلوس مازون يتناول غداءً مطولًا استمر أربع ساعات.

حين أُرسلت التحذيرات الرسمية على هواتف السكان في الثامنة مساءً، كان معظم الضحايا قد رحلوا، والنتيجة كانت مأساوية: 229 قتيلاً في فالنسيا، وآلاف البيوت المدمرة، وأكثر من مئة ألف سيارة جرفتها المياه.

غضب لا يهدأ

في الذكرى السنوية الأولى للكارثة يوم السبت الماضي، خرج أكثر من خمسين ألف شخص في تظاهرات غاضبة يطالبون باستقالة مازون، الذي تصفه الشعارات في الشوارع بأنه "مجرم" و"صاحب الأيدي الملطخة بالطين والدم".

استطلاع رأي حديث كشف أن ثلاثة من كل أربعة من سكان فالنسيا يرون أنه يجب أن يرحل، لكن خلف السياسة، هناك وجوه الناس الذين عاشوا المأساة وما زالوا يعيشون عواقبها.

عائلة واحدة.. ومأساة تمتد لعام

فرناندو سانشيز يتذكر تلك الليلة حين سار وسط الوحل ليصل إلى شقة والديه، جثة أحد الجيران كانت تُسحب من بين الركام، بينما أنقذ الجيران والدَيه العاجزين من الغرق، وظل والده فرانسيسكو، المقعد على كرسي متحرك، محاصرًا في شقته لأشهر طويلة بعد الكارثة، فالمصعد لم يُصلَح، والمياه كانت قد بلغت ارتفاع مترين ونصف المتر، تمامًا كما تُظهر اللوحة التذكارية.

يقول فرناندو: "كان معتادًا على الخروج إلى الشارع، ثم وجد نفسه بين أربعة جدران حتى رحل، لم يشكُ يومًا، لكنه مات وهو سجين بيته".

غضب الجيران

روت مويانو، الجارة التي أنقذت عشرات الأرواح في تلك الليلة، أصبحت اليوم ناشطة في لجنة الطوارئ المحلية، لكنها تقول إن الغضب لم يهدأ، وإن خطط الحكومة لإعادة الإعمار البالغة 29 مليار يورو "تتجاهل جوهر الأزمة المناخية".

تقول: "الخرسانة ليست الحل، نحن بحاجة إلى مدن تمتص الماء، لا مدن تغرق فيه".

ماريلو غرادولي، المتحدثة باسم جمعية ضحايا فيضانات فالنسيا، تقول إن الناس لا يريدون فقط التعويض المادي بل "الاعتراف بمعاناتهم وحقهم في العدالة".

تضيف: "بعض الناس تمسكوا بأسقف منازلهم ساعات طويلة لينجوا، وآخرون فقدوا أحبّاءهم أمام أعينهم. هذه ليست مجرد خسائر مادية، إنها ندوب نفسية لم تندمل".

أسئلة العدالة الغائبة

بينما تستعد إسبانيا لإقامة جنازة رسمية لضحايا الكارثة، تكشف التحقيقات القضائية أن التحذيرات من هيئة الأرصاد صدرت قبل 12 ساعة من الفيضان، لكن المسؤولين تأخروا في التحرك.

يُصرّ مازون على أن "لا حكومة في العالم يمكنها إيقاف عاصفة بهذا الحجم"، غير أن شهادات المسؤولين في حكومته تكشف ارتباكاً وغياب خبرة في إدارة الطوارئ.

فنان فقد فنه.. ومدينة فقدت نفسها

سلفادور سيجيس، فنان كاريكاتير في السبعين من عمره، خسر ثلاثمئة لوحة عندما اجتاحت المياه منزله، يقول: "هربنا عبر الجدران وطرَقنا نافذة الجيران لننجو، لم يكن هناك تحذير، فقط أكاذيب، لو علمنا مسبقاً، لربما نجا الكثيرون".

صوته لا يختلف عن أصوات مئات الناجين الذين لا يطالبون إلا بشيء واحد: أن تتحول الذكرى إلى درس، لا إلى شعار.

كارثة فالنسيا في أكتوبر 2024 كانت الأعنف في تاريخ إسبانيا الحديث، إذ فاقت كميّة الأمطار خلالها الأرقام المسجّلة منذ قرن.

وأعادت المأساة فتح النقاش حول هشاشة البنية التحتية في مواجهة التغير المناخي المتسارع، بعدما شهدت البلاد أيضاً حرائق مدمّرة في الأعوام الأخيرة.

الحكومة الإسبانية أطلقت لاحقاً خطة وطنية لمواجهة الطوارئ المناخية، لكن منظمات بيئية ومجتمعية أكدت أن تلك الخطط "لم تصل بعد إلى الناس الذين يعيشون على الخط الأمامي من الكارثة".

فالنسيا، المدينة التي أنهكها الطوفان، ما زالت حتى اليوم تحاول أن تستعيد ملامحها، لكن الطين الذي جفّ ترك وراءه ندبة لا تُمحى في ذاكرة سكانها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية