من الاضطهاد إلى الفصل العنصري.. ملامح مرحلة قانونية جديدة في العدالة الدولية للنساء

من الاضطهاد إلى الفصل العنصري.. ملامح مرحلة قانونية جديدة في العدالة الدولية للنساء
المحكمة الجنائية الدولية

في تطور لافت في مسار العدالة الدولية وحقوق المرأة، دعت المحامية الدولية والباحثة القانونية المتخصصة في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان والعدالة الجندرية، أكسانا سلطان، إلى الاعتراف بالفصل العنصري القائم على النوع الاجتماعي بوصفها جريمة مستقلة ضمن القانون الدولي، معتبرة أن الوقت قد حان لتجاوز الصياغات التقليدية التي تكتفي بتجريم "الاضطهاد" دون مساءلة النظام الذي يصنعه.

جاءت تصريحات سلطان في سياق تقرير تحليلي موسع نشرته شبكة "opiniojuris" اليوم الاثنين بعنوان "من الاضطهاد إلى الفصل العنصري.. الأفق القانوني القادم للمحكمة الجنائية الدولية لحقوق المرأة"، والذي ناقش التطورات القانونية الأخيرة عقب إصدار المحكمة الجنائية الدولية في يوليو 2025 مذكرات توقيف بحق زعيم طالبان هبة الله أخوندزاده ورئيس القضاة عبد الحكيم حقاني بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسها الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي.

الاضطهاد لم يعد كافياً

ترى سلطان أن مذكرات التوقيف الأخيرة تمثل خطوة تاريخية في اتجاه مساءلة مرتكبي الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن حدود القانون الجنائي الدولي القائم، إذ إن تهمة الاضطهاد لا تمسّ جوهر النظام الذي يُنتج هذا القمع، بل تلاحق الأفعال المنفصلة الناتجة عنه.

وتوضح الباحثة أن نظام طالبان الحاكم في أفغانستان الذي أصدر منذ 2021 أكثر من مئة مرسوم يحظر تعليم النساء وعملهن وتنقلهن، لا يُمارس انتهاكات فردية بل يُجسّد "هندسة دولة" قائمة على تراتبية جنسانية مقننة بالقانون والسياسة. فكل مرسوم هو تجسيد لهيمنة مؤسسية هدفها إقصاء النساء من الحياة العامة وتحويلهن إلى فئة اجتماعية تابعة بلا حقوق.

وتضيف أن هذا النمط من السيطرة المنظمة لا يمكن أن يُفهم أو يُقاضى بصفته اضطهادًا فحسب، بل يجب الاعتراف بأنه "نظام فصل عنصري جندري"، إذ يقوم على هيمنة جماعة (الرجال) على جماعة أخرى (النساء) في إطار قانوني وإداري ممنهج، تمامًا كما جُرّم الفصل العنصري العرقي سابقًا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

من محكمة الجنايات لمحكمة الشعب

وفي أكتوبر 2025، عقدت "محكمة الشعب لنساء أفغانستان" في مدريد جلسات استماع مؤثرة، شاركت فيها منظمات حقوقية دولية وشهود أفغانيات قدّمن شهادات عن القمع الممنهج الذي يتعرضن له تحت حكم طالبان، اعتبرت المحكمة الشعبية أن ما يجري في أفغانستان لا يرقى إلى مستوى الاضطهاد فحسب، بل إلى نظام فصل عنصري مؤسس على النوع الاجتماعي.

ورغم أن هذه المحكمة لا تملك سلطة قضائية تنفيذية، فإنها -كما توضح سلطان- تمثل مختبرًا قانونيًا واجتماعيًا يختبر حدود القانون الدولي ويفتح الباب أمام إعادة تفسيره، فهي تكرر تجربة تاريخية لمحاكم شعبية سابقة، مثل محكمة راسل حول حرب فيتنام ومحكمة طوكيو النسائية حول العبودية الجنسية العسكرية، والتي أسهمت في توسيع المفاهيم القانونية حتى وجدت طريقها لاحقًا إلى القوانين الدولية الملزمة.

وتُشير أكسانا سلطان إلى أن المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تُعرّف الفصل العنصري بأنه جريمة ضد الإنسانية ترتكب في سياق نظام قمع وهيمنة من جماعة عرقية على أخرى، لكنها لا تتطرق إلى الفصل القائم على النوع الاجتماعي، كما أن المادة ذاتها تعترف بالاضطهاد على أساس الجنس بوصفه جريمة، لكنها تعده فرعًا من جرائم أخرى لا نظامًا قائمًا بحد ذاته.

هذا الصمت المفاهيمي -كما تصفه سلطان- يُنتج فجوة قانونية خطيرة، إذ يُدان القمع القائم على العرق باعتباره بنية مؤسسية، في حين يُختزل القمع القائم على النوع الاجتماعي في كونه مجرد سلسلة من الأفعال.

وتقول الباحثة إن القانون، في صورته الحالية، يستطيع ملاحقة من يصدر أو ينفذ قرارات قمعية ضد النساء، لكنه لا يملك الأدوات لمساءلة النظام الذي يُشرّع هذا القمع ويُكرّسه، ومن هنا، يصبح تجريم الفصل العنصري الجندري ضرورة لإعادة التوازن إلى منظومة العدالة الدولية.

منظومة حقوق الإنسان

ترى سلطان أن القانون الدولي لحقوق الإنسان، رغم احتوائه على معاهدات مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، لا يملك آليات عقابية رادعة، إذ يكتفي بتقديم تقارير وتوصيات للحكومات ولا يُحمّل الأفراد أو القادة السياسيين مسؤولية جنائية.

وتوضح أن هذا النوع من القوانين لا يكفي عندما يكون النظام السياسي نفسه مبنيًا على الإقصاء، ففي هذه الحالة، لا تكون الانتهاكات مجرد تجاوزات، بل جرائم ضد الإنسانية، لا يمكن مواجهتها إلا من خلال القانون الجنائي الدولي الذي يضمن المساءلة الفردية والردع الفعّال.

وطرحت أكسانا سلطان مسارين محتملين لدمج مفهوم "الفصل العنصري الجندري" في القانون الدولي، الأول عبر التفسير القضائي الموسع للمادة 21 من نظام روما الأساسي التي تلزم المحكمة بتفسير نصوصها بما يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان. وهذا يعني إمكانية تفسير مصطلح الفصل العنصري ليشمل جميع أنماط الهيمنة المنهجية، ومنها تلك القائمة على النوع الاجتماعي.

أما المسار الثاني، فيتمثل في تعديل نصي مباشر لنظام روما الأساسي عبر إضافة فقرة جديدة تُعرّف الفصل العنصري الجندري بأنه "نظام مؤسسي من القمع والهيمنة المنهجية من قِبل جنس على آخر يُمارس للحفاظ على هذا النظام"، وهو اقتراح من شأنه أن يُضفي على الجريمة طابعًا واضحًا ومستقلًا، كما حدث في تعديلات كمبالا عام 2010 بشأن جريمة العدوان.

الأثر الإنساني والسياسي

ترى منظمات حقوقية أن إدراج الفصل العنصري الجندري ضمن منظومة الجرائم الدولية سيحدث تحوّلًا جذريًا في آليات الحماية القانونية للنساء والفتيات حول العالم، خاصة في الدول التي تتخذ من التمييز ضد المرأة سياسة رسمية أو عرفية.

فمنظمة العفو الدولية رحبت في تقارير سابقة بجهود تطوير القانون الجنائي الدولي ليشمل الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي، مؤكدة أن الاعتراف بهذه الجريمة سيمنح المدافعات عن حقوق المرأة أدوات قانونية أقوى لملاحقة الأنظمة التي تمارس القمع المؤسسي، من أفغانستان إلى إيران وغيرها من المناطق التي تتعرض فيها النساء للعنف المنهجي.

وفي السياق ذاته، شددت هيئة الأمم المتحدة للمرأة على أن مواجهة التمييز البنيوي تتطلب أدوات قانونية تتجاوز الإدانة الأخلاقية إلى المساءلة القانونية المباشرة، معتبرة أن تجربة المحكمة الجنائية الدولية مع طالبان قد تكون بوابة لتأسيس سابقة قانونية تاريخية.

ويشير باحثون في العدالة الانتقالية إلى أن الطريق نحو تجريم الفصل العنصري العرقي كان طويلًا، واحتاج إلى عقود من النضال الحقوقي والسياسي حتى اعترفت به الأمم المتحدة في اتفاقية 1973 ونظام روما الأساسي عام 1998، ويشبّه هؤلاء ما يجري اليوم بالنسبة للفصل العنصري الجندري بتلك المرحلة المبكرة التي سبقت الاعتراف الرسمي بالفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

فتمامًا كما احتاج المجتمع الدولي إلى إدراك أن التمييز العرقي ليس مجرد انتهاك حقوقي بل جريمة مؤسسية، فإن اللحظة الراهنة تستدعي إدراكًا مماثلًا بأن التمييز المنهجي على أساس النوع الاجتماعي يشكّل جريمة ضد الإنسانية متكاملة الأركان.

أفق جديد للعدالة

تؤكد أكسانا سلطان أن المحكمة الجنائية الدولية تواجه اليوم اختبارًا حقيقيًا لمصداقيتها، إذ يجب أن تتطور أدواتها لمواجهة أنظمة الإقصاء المنهجي المبنية على النوع الاجتماعي، لا أن تكتفي بملاحقة الأفعال الناتجة عنها، وترى أن الاعتراف بالفصل العنصري الجندري سيملأ فجوة أخلاقية وقانونية في القانون الجنائي الدولي، ويجعل المساواة بين الجنسين مبدأً ملزمًا وليس شعارًا.

إن ما يجري في أفغانستان اليوم -كما تقول سلطان- ليس مجرد اضطهاد عابر، بل نموذج متكامل لنظام هيمنة مؤسسي قائم على النوع الاجتماعي، وإذا فشل القانون الدولي في تسمية هذا النظام باسمه الحقيقي، فإنه يخاطر بإعادة إنتاج الصمت الذي سمح بجرائم الفصل العنصري العرقي في القرن الماضي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية