وسط تصاعد الضغوط السياسية.. دعوة أممية إلى احترام استقلال المحكمة الجنائية الدولية

وسط تصاعد الضغوط السياسية.. دعوة أممية إلى احترام استقلال المحكمة الجنائية الدولية
المحكمة الجنائية الدولية

دعت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية باستقلال القضاة والمحامين مارجريت ساترثويت إلى ضرورة احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية، مؤكدة أن أي ضغوط أو تهديدات تمثل انتهاكًا خطرًا للقانون الدولي وتقوض مبدأ العدالة المتساوية للجميع.

وجاءت دعوتها في بيان رسمي صدر الخميس، على خلفية العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية في أغسطس الماضي ضد عدد من مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية عقب إصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين كبار وفق وكالة أنباء الأناضول.

انتقادات للعقوبات الأمريكية على المحكمة

كانت الولايات المتحدة قد أعلنت في 20 أغسطس الماضي إدراج قاضيين ومساعدين اثنين للمدعي العام للمحكمة ضمن قائمة العقوبات، بدعوى مشاركتهم في إجراءات تتعلق بإسرائيل.

وسبقت تلك الخطوة عقوبات سابقة في يونيو من العام نفسه استهدفت المدعي العام للمحكمة كريم خان، بعد أن اتهمته واشنطن بالانحياز في تحقيقاته.

وفي تبرير هذه الخطوات، قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إن المحكمة "تُستخدم أداة لحرب قانونية ضد الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل"، مضيفًا أن بعض المسؤولين فيها "يتجاوزون صلاحياتهم ويشكلون تهديدًا للأمن القومي الأمريكي".

إن هذه الإجراءات أثارت موجة من الانتقادات داخل الأوساط الحقوقية والأممية، التي رأت فيها محاولة غير مسبوقة لتقويض العدالة الدولية وفرض وصاية سياسية على مؤسسة قضائية مستقلة.

مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين

تعود خلفية الأزمة إلى 21 نوفمبر 2024، حين أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

وقد اعتبرت المحكمة أن لديها "أدلة معقولة" تشير إلى مسؤولية القادة الإسرائيليين عن أفعال ترتقي إلى جرائم دولية، في سياق العمليات العسكرية التي شهدها القطاع خلال الحرب.

ورغم أن إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، فإن المحكمة استندت إلى اختصاصها القضائي على الأراضي الفلسطينية التي قبلت ولايتها عام 2015، ما جعل قراراتها ذات أثر قانوني على المستوى الدولي.

"لا أحد فوق القانون"

في بيانها، شددت المقررة الخاصة مارجريت ساترثويت على أن مبدأ المساواة أمام القانون يجب أن يظل ركيزة أساسية في عمل المجتمع الدولي، قائلة: "إذا كان الجميع متساوين أمام القانون، فإن إجراءات المحكمة الجنائية الدولية تُظهر أن هذا المبدأ ينطبق على كل من الضحايا والجناة المزعومين".

وأضافت أن التهديدات والعقوبات الموجهة ضد المحكمة الجنائية الدولية لا تضعف فقط الثقة في العدالة، بل "تعزز ثقافة الإفلات من العقاب وتشجع على انتهاكات جديدة"، مؤكدة أن استقلال القضاة والمحامين "خط أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي مبرر سياسي".

كما دعت جميع الدول إلى احترام استقلال المحكمة وحياد موظفيها، باعتبارها سلطة قضائية قائمة على القانون الدولي وليست طرفًا سياسيًا في النزاعات.

العدالة الدولية بين السياسة والقانون

تعيد هذه الأزمة إلى الواجهة الجدل القديم حول الحدود بين العدالة الدولية والسياسة، إذ يرى مراقبون أن العقوبات الأمريكية تمثل ضغطًا مباشرًا على مؤسسة يفترض أن تكون مستقلة عن التأثيرات الحكومية.

فالمحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي، أنشئت بهدف التحقيق في أخطر الجرائم التي تهدد السلم والأمن الدوليين، ومنها جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

ورغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تصادقا على النظام المؤسس للمحكمة، فإن العديد من القضايا التي تناولتها المحكمة -من دارفور إلى أوكرانيا- أظهرت تأثيرها الواسع في المشهد القضائي العالمي.

ويرى خبراء أن الهجوم على المحكمة في هذه المرحلة يعكس "قلق بعض القوى من فقدان السيطرة على أدوات العدالة"، خاصة في ظل تنامي الدعوات لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية.

الدفاع عن سيادة القانون

تؤكد الأمم المتحدة باستمرار أن استقلال القضاء الدولي هو شرط أساسي لتحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب.

وفي هذا السياق، شددت المقررة الخاصة على أن العقوبات المفروضة على القضاة والمدعين العامين "لا تتوافق مع مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة باستقلال القضاء"، مشيرة إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تخلق سابقة خطِرة تهدد منظومة العدالة الدولية برمتها.

وأضافت أن "المجتمع الدولي لا يمكن أن يقبل بتقسيم العدالة على أسس سياسية أو جغرافية"، مشددة على ضرورة "إنهاء المعايير المزدوجة التي تميز بين الضحايا تبعًا لهوياتهم أو مصالح الدول الكبرى".

وتحذر من أن الاستمرار في هذه السياسات سيؤدي إلى إضعاف الإيمان العالمي بالقانون الدولي وإفراغ آليات العدالة من مضمونها.

العدالة ليست انتقائية

تؤكد المقررة الأممية أن العدالة "لا يمكن أن تكون انتقائية أو خاضعة للحسابات السياسية"، موضحة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تمثل تهديدًا لأي دولة، بل أداة لضمان أن مرتكبي الجرائم الجسيمة لن يفلتوا من العقاب أياً كانت مواقعهم.

وقالت: "حين يتم معاقبة القضاة والمدعين لأنهم مارسوا صلاحياتهم القانونية، فإننا نرسل رسالة خطرة مفادها أن العدالة نفسها يمكن معاقبتها"، داعية إلى "تكاتف الدول لحماية استقلال المؤسسات القضائية الدولية بدل تقويضها".

دعوات متزايدة لدعم المحكمة

في المقابل، صدرت خلال الأشهر الماضية بيانات من منظمات حقوقية دولية بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تطالب واشنطن بـ"رفع العقوبات فورًا عن مسؤولي المحكمة" واحترام استقلالها.

وأكدت تلك المنظمات أن هذه العقوبات "تمثل انتهاكًا لسيادة القانون وتشكل سابقة تهدد مستقبل العدالة الدولية برمته".

كما شدد عدد من الدبلوماسيين الأوروبيين على أن المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تتمتع بالحرية الكاملة لملاحقة الجرائم الخطرة دون تدخل سياسي، معتبرين أن "محاولة تسييس القضاء الدولي تقوض قيم النظام العالمي القائم على القانون".

بين القانون والواقع

في الوقت الذي تتصاعد فيه الانتقادات للولايات المتحدة بسبب هذه الخطوات، يرى محللون أن القضية تتجاوز مجرد خلاف قانوني لتكشف عن صراع أوسع حول مفهوم العدالة الدولية.. هل هي أداة لخدمة النظام الدولي القائم على المساواة، أم آلية تخضع لتوازنات القوى ومصالح الدول الكبرى؟

ورغم أن المحكمة واجهت اتهامات سابقة بالتحيز أو الازدواجية في المعايير، إلا أن ملاحقتها قيادات إسرائيلية تعد من أكثر القرارات جرأة في تاريخها، إذ وضعت نفسها في مواجهة مباشرة مع واحدة من أبرز القوى الداعمة لإسرائيل على الساحة الدولية.

الأمم المتحدة: العدالة لا تعرف حدوداً

في ختام بيانها، أكدت المقررة الخاصة مارجريت ساترثويت أن استقلال القضاء الدولي ليس امتيازًا، بل ضرورة لضمان العدالة لجميع الشعوب.

وقالت: "حين يتم تهديد المحكمة الجنائية الدولية، فإن ذلك لا يهدد مؤسسة واحدة، بل النظام القانوني العالمي بأسره".

وأضافت أن الأمم المتحدة ستواصل الدفاع عن استقلال القضاة والمحامين في كل مكان، باعتبارهم "الركيزة الأساسية لأي نظام ديمقراطي يحترم الكرامة الإنسانية"، داعية إلى أن "يظل القانون هو الحكم الوحيد بين الأمم لا القوة أو السياسة".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية