من فرنسا إلى الوطن.. تحويلات المهاجرين بين الدعم العائلي والتسرّب الاقتصادي
أكثر من عشرة مليارات يورو سنوياً
في قلب النقاش الاقتصادي الفرنسي يتجلّى ملف يُثير جدلاً متراكماً كشفت عنه تحويلات المهاجرين المقيمين في فرنسا إلى بلدانهم الأصلية، والتي بلغت أكثر من عشرة مليارات يورو سنوياً وفقاً لما ذكرته صحيفة "لو فيغارو" يوم الاثنين وتشير بيانات مرصد الهجرة والديموغرافيا إلى أن خسائر فرنسا الناتجة عن هذه التحويلات تراكمت بين عامي 2009 و2023 إلى نحو 155.5 مليار يورو، بناءً على أرقام "يوروستات".
تبدو هذه الأرقام في ظاهرها مجرد إحصاء، لكنها تحمل إيحاءات أعمق.. أموالٌ تُحوّل من اقتصاد فرنسا إلى خارجها، دفعت إلى طرح سؤال كبير حول الأثر الحقيقي لهذه التدفقات، ليس فقط على المجتمعات المهاجرة وعائلاتها، بل على الاقتصاد الوطني والدورة المالية الفرنسية.
منذ نهاية القرن العشرين، بدأت المجتمعات الأوروبية تدرك أن تحويلات المهاجرين تشكِّل تدفقاً مالياً مهماً قد يفوق في بعض الحالات حجم المساعدات الرسمية للتنمية، وعلى سبيل المثال، تشكّلت الآلية المعروفة باسم “منشأة التمويل للتحويلات” لدى الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) في عام 2006، لدعم تحسين تحويلات المهاجرين وزيادة تأثيرها التنموي.
بالإضافة إلى ذلك، أعدّت KNOMAD (المِنظّمة المعنيّة بالهجرة والتنمية التابعة للبنك الدولي) دراسات حول التحويلات ووضعت توصيات ربطها بأهداف التنمية المستدامة 2030.
في سياق فرنسا، فإن التحويلات المرتبطة بالمهاجرين لم تكن محلّ تركيز كبير، لكن مع تزايد أعداد المهاجرين واستقرارهم على المدى الطويل، أصبحت ظاهرة مالية واجتماعية ذات صلة مباشرة بالاقتصاد الوطني.
الأسباب وراء ارتفاع التحويلات
أحد الدوافع المهمة هو أن المهاجرين في فرنسا يمتلكون روابط عائلية أو مجتمعية في بلدانهم الأصلية، مما يدفعهم إلى إرسال أموالٍ منتظمة لدعم التعليم أو السكن أو الرعاية الصحية، وفي هذا السياق يرى المسؤولون أن هذه الأموال خارج الدورة الاقتصادية الفرنسية، وقد أشار ديدييه ليشي، مدير المكتب الفرنسي للٌّجوء والاندماج، إلى أن المبلغ يفوق قيمة المساعدات الرسمية للتنمية التي تُقدّمها فرنسا على مستوى العالم.
وبالتالي، فإن التحويلات ليست مجرد خيار فردي، بل ظاهرة مرتبطة بمسارات الهجرة الطويلة وبما يعرفه المهاجر من التزام تجاه أسرته الأصلية.
أنظمة التحويل غير الرسمية وتوسّعها
لا تقتصر التحويلات على القنوات المصرفية والرسمية، بل هناك انتشار واسع لـ"الحوالة" أو شبكات التحويل غير الرسمية، التي تُفضَّل في بعض الحالات لسرعة التحويل أو انخفاض التكلفة أو لغياب المرونة في تداول العملة المحلية في بلد الأصل.
وأشار استطلاع أجرته "إبسوس" إلى أن نحو 19 % من المشاركين في فرنسا نحو إفريقيا استخدموا شبكات غير رسمية، وتبلغ النسبة نحو 21 % في مسار شمال إفريقيا، يُضاف إلى هذا أن بعض العملات (مثل الدينار الجزائري في فرنسا) لا تُحوَّل بسهولة، ما يُؤدي إلى ظهور سوق موازٍ لتسعير العملة وتحويلها نقداً أو عبر وسطاء.
يمكن القول إذن إن التحويلات غير الرسمية أدّت إلى تضخيم حجم الأموال الخارجة من الاقتصاد الفرنسي، وأضعفت قدرة الدولة على تتبّع هذه التدفقات وفهمها.
تأثيرات الهجرة منذ 2015 وتغيّر المشهد
تشير المذكرة إلى أن أزمة الهجرة التي بدأت في عام 2015 أسهمت بوضوح في ارتفاع حجم التحويلات المالية من فرنسا إلى الخارج، باعتبار أن عدد الوافدين والمُقيمين ارتفع، ما زيّد بدوره أعداد المرسِلين والمستفيدين، ففي عام 2023 بلغ العجز الفرنسي عن التحويلات نحو 15.8 مليار يورو، أي ما يعادل 44 % من عجز الاتحاد الأوروبي الكلّي (35.9 مليار يورو)، أما في عام 2014 فقد كان العجز الأوروبي نحو 12.4 مليار يورو، ما يكشف تضاعفاً تقريبياً خلال عقد.
وهنا يظهر أن الظاهرة ليست مؤقتة، بل في طور تزايد واضح، ما يضع فرنسا في صدارة الدول الأوروبية من حيث هذا النوع من الخسائر الاقتصادية.
التداعيات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية
حين يُحوّل المهاجرون مبالغ كبيرة إلى خارج فرنسا، فإن هذه الأموال لا تُستَثمَر أو تُصرف أو تُضَخّ في الدورة الاقتصادية الفرنسية أو تُحتَسب ضمن الإيرادات الضريبية أو الاستهلاكية، مما يؤدي إلى ضعف في الناتج المحلي والإيرادات المتوقّعة، ووفقاً لمسودة مرصد الهجرة، فإن هذه الأموال تؤثّر سلباً على الاستهلاك والادخار والإيرادات الضريبية، وتزيد من التكلفة العامة للهجرة.
ويمكن القول إن هذا الميل الخارجي للأموال، وإن كان مدعوماً بمنطق إنساني واجتماعي، يشكّل في العمق خصماً من إمكانات الدولة الفرنسية في تحقيق النمو والاستثمار في الخدمات العامة.
أثر على الدول المستقبِلة وتحوّله إلى معضلة تنموية
على الجانب المقابل، تشكّل التحويلات شرياناً اقتصادياً للدول المتلقّية، وخاصة في إفريقيا بشكل عام وشمالها بشكل خاص، إذ ذهب نحو 41 % إلى شمال إفريقيا، مع تركيز واضح على المغرب الذي تلقى نحو 22 % من التحويلات الفرنسية في عام 2023. غير أن البيانات عن الجزائر غير متوفّرة تفصيلياً من يوروستات، رغم أن قيمة التحويلات إليها قُدّرت من البنك الدولي بـ1.7 مليار يورو في عام 2023.
هذه الأموال، رغم أهميتها، قد تؤدّي إلى اعتماد كبير على التحويلات بدلاً من تشجيع الاستثمار المحلي أو تطوير بنى تحتية أو اقتصاد داخلي قوي.
التحدّيات القانونية والتنظيمية
تواجه فرنسا وأوروبا بشكل عام تحديات كبيرة في تنظيم تحويلات المهاجرين، خاصة حين تمرّ عبر شبكات غير رسمية أو فيروسية، أو حين تُحوَّل العملات بأسعار موازية، ومن القانون الدولي ما يُعنى بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، لكن تحويلات الأفراد العاديين غالباً ما تخرج من نطاق الرقابة الشديدة، ما يجعل فرض ضريبة أو تنظيمها أمراً معقّداً، وتقترح مذكرة المرصد فرض ضريبة أوروبية على التحويلات إلى الدول غير الأوروبية، ومحاربة شبكات الحوالة غير الرسمية، واستخدام التحويلات كأداة ضغط دبلوماسي في حالات رفض التعاون في إعادة المهاجرين غير النظاميين، لكن هذه المقترحات تواجه اعتراضات مرتبطة بحريّة الأفراد في تحويل ممتلكاتهم، وببيئة معقّدة من القوانين الأوروبية المحلية والدولية.
ردود الفعل والتحليلات المؤسسية
وسائل الإعلام الفرنسية تناولت الموضوع بحدة، فقالت لو فيغارو إن هذا الملف يمثل تكلفة خفيّة للهجرة داخل الاقتصاد الفرنسي، بينما وصفته قناة CNEWS بأنها أموال خرجت من دائرة الاقتصاد المحلي.
منظمات دولية أبدت اهتماماً أيضاً؛ فهللت الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) بضرورة أن تُحوَّل التحويلات إلى أدوات تنموية، وقالت إن التدفقات المالية للمهاجرين تفوق المساعدات الرسمية، كما حذّرت المنظمة الدولية للهجرة من أن الأموال التي ترسلها الأسر المهاجرة قد تُزعزع استقرار الدول المستقبِلة إذا انخفضت أو تغيّرت أسعار الصرف لديها.
في فرنسا، أثارت المذكرة نقاشاً سياسياً حول ما إذا كانت سياسات الهجرة والاندماج تأخذ بعين الاعتبار البعد المالي لهذه التحويلات، وما إذا كان على الدولة أن تفرض ضوابط أو ضرائب أو تنظيمات أكثر صرامة لوقف التأثير السلبي على الاقتصاد الوطني، أو على الأقل الحدّ منه.
إن ظاهرة تحويلات المهاجرين من فرنسا إلى بلدانهم الأصلية تستشرف بعدين متداخلين: أولاً إنسانياً واجتماعياً، وثانياً اقتصادياً ووطنياً، فبينما تعبّر التحويلات عن روابط إنسانية ودعم عائليّ، فإنها في نفس الوقت تمثّل خروجاً من الاقتصاد الفرنسي لأموال كان يُحتمل أن تُستثمَر داخلياً، أو تُستخدم في الاستهلاك أو الضريبة أو الادخار، ما يُضعف النمو والاستقرار المالي على المستوى الوطني.
ولذا، فإن معالجة الظاهرة تتطلّب مقاربة شاملة تشمل تعزيز الشفافية في نظام التحويلات، مواجهة شبكة التحويلات غير الرسمية، دمج البُعد المالي في سياسات الهجرة والاندماج، وتحليل التأثيرات التنموية على البلدان المستقبِلة، وعلى المستوى الأوروبي، قد يكون التفكير في آليات ضريبية أو تنظيمية أو تشجيع القنوات الرسمية أقل تكلفة وأعلى شفافية خياراً يجب مناقشته.
في الختام، إن خروج أكثر من عشرة مليارات يورو سنوياً تقريباً من الاقتصاد الفرنسي عبر تحويلات المهاجرين ليس مجرد رقم بل إشارة إلى أن الهجرة والتحويلات المالية مرتبطتان بعمق بالاقتصاد والمجتمع، وأن السياسات ينبغي أن تراعي هذا البُعد المالي كي تكون أكثر فاعلية وعدالة واستدامة.











