أزمة تصاريح الإقامة في فرنسا.. تأخيرات تُغذي استغلال المهاجرين وتُهدد كرامتهم الإنسانية

أزمة تصاريح الإقامة في فرنسا.. تأخيرات تُغذي استغلال المهاجرين وتُهدد كرامتهم الإنسانية
أزمة تصاريح إقامة العمال المهاجرين في فرنسا

تعيش فرنسا اليوم أزمة إنسانية واجتماعية صامتة، تتجلى في معاناة آلاف العمال الأجانب العالقين في دوامة بيروقراطية تجديد تصاريح الإقامة، فبين تأخيرات لا تنتهي في المعاملات الإدارية وتعطّل الأنظمة الإلكترونية وغياب المواعيد، يجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة أوضاع معيشية هشّة تُعرّضهم للاستغلال، وتجعلهم فريسة سهلة لأصحاب العمل عديمي الضمير.

في تقرير حديث صدر الأربعاء كشفت منظمة العفو الدولية "أمنستي" أن فشل الإدارات الفرنسية في معالجة طلبات تجديد تصاريح الإقامة بالسرعة المطلوبة يخلق بيئة خصبة للانتهاكات وفق "مهاجر نيوز"، لافتاً أن التأخير في إصدار التصاريح يضع المهاجرين في حالة "انعدام قانوني"، تُسلب فيها حقوقهم الأساسية، وتُستغل هشاشتهم من قبل أرباب العمل الذين يمارسون التمييز وسرقة الأجور والعنف بأشكاله المختلفة.

الانتهاكات المسجلة

ووفقاً للتقرير، فإن الانتهاكات المسجلة تشمل الحرمان من الأجور، والعمل القسري لساعات طويلة، وحرمان العمال من الحماية الصحية والاجتماعية، إضافة إلى الاعتداءات الجسدية والتحرش الجنسي، خاصة في قطاعات مثل البناء، والرعاية المنزلية، والتنظيف، والمطاعم.ـ وتوضح "أمنستي" أن أغلب الضحايا ينتمون إلى دول إفريقية وآسيوية مثل مالي وساحل العاج وأنغولا والكاميرون والهند وسريلانكا، ويعملون في وظائف أساسية لدورة الاقتصاد الفرنسي، رغم أنهم يظلون غير مرئيين في النظام الاجتماعي والقانوني.

وتعود جذور الأزمة إلى القصور الهيكلي في النظام الإداري في فرنسا، فبينما يُلزم القانون العمال بتقديم طلبات تجديد تصاريحهم قبل انتهاء صلاحيتها بشهرين إلى أربعة أشهر، لا توجد أي قاعدة قانونية تُجبر المحافظات على البت في الطلبات خلال فترة زمنية محددة، ونتيجة لذلك، قد تمتد فترات الانتظار من بضعة أسابيع إلى ثلاث سنوات، ما يترك آلاف العمال من دون وثائق رسمية، محرومين من العمل ومن أبسط أشكال الحماية الاجتماعية.

ومنذ إدخال المنصات الرقمية لإدارة ملفات الأجانب عام 2020، وتحديداً موقع "ANEF"، تعقدت الإجراءات أكثر، إذ بات على الأجانب حجز مواعيد إلكترونية عبر نظام مزدحم وغير مستقر. وغالباً ما تُغلق المواعيد المتاحة خلال دقائق من نشرها، ما يدفع العديد من المهاجرين إلى الانتظار أشهراً أو حتى سنوات دون أي استجابة من السلطات، وأكدت منظمة العفو الدولية أن هذه الأعطال التقنية تحولت إلى "معوّق مؤسسي" يفاقم معاناة المهاجرين بدل أن يُسهم في تحسين الخدمة العامة.

قصص مؤلمة

تقرير "أمنستي" وثّق قصصاً مؤلمة لأشخاص خسروا كل شيء لهم في فرنسا بسبب هذه الثغرات، منها قصة نادية، وهي عاملة رعاية منزلية من ساحل العاج، التزمت بكل الإجراءات المطلوبة لتجديد إقامتها، لكنها فقدت عملها بسبب التأخير، فتُركت بلا دخل ولا إعانات، واضطرت للعيش على مساعدات الجمعيات الخيرية، وتقول نادية: "بين ليلة وضحاها أصبحت بلا وثائق، بلا مال، بلا مستقبل".

قصة أخرى رواها هشام، عامل بناء من مالي، يقيم في فرنسا منذ سنوات ويجدد تصريحه بانتظام، غير أن الأعطال المستمرة في النظام الإلكتروني جعلته يعيش لفترات طويلة من دون أوراق قانونية، يقول: "أصبحتُ عالقاً، لا أستطيع العمل رسمياً، ولا أستطيع مغادرة البلاد، حياتي كلها معلقة على موعد إلكتروني لا يأتي أبداً".

وترى منظمة العفو الدولية أن هذه الأزمة تتجاوز الأخطاء الإدارية لتكشف عن خلل هيكلي في سياسات الهجرة الفرنسية، فالإقامات قصيرة الأجل التي غالباً ما تُمنح لمدة عام واحد فقط، تضع المهاجرين في حالة دائمة من القلق واللااستقرار، ومع كل طلب تجديد، يبدأ مسار جديد من الانتظار والشك، ما يجعل العمال عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم أو التبليغ عن أي انتهاكات يتعرضون لها خوفاً من فقدان وظائفهم أو ترحيلهم.

حلقة تنتهك فيها الحقوق

وتؤكد المنظمة أن ما يحدث ليس حالات فردية، بل نمط "منهجي وهيكلي" من الاستغلال، تدعمه ثغرات قانونية وإدارية متجذّرة، فالعمال الأجانب يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة، إذ لا يمكنهم الحصول على تصريح عمل دون تصريح إقامة، ولا يُمنح لهم تصريح إقامة دون عقد عمل، وبين الطرفين تنشأ مساحة رمادية واسعة تسمح بانتهاك حقوقهم في وضح النهار.

وتشير الشهادات إلى أن بعض أصحاب العمل يستغلون هذا الوضع بشكل متعمد، فيهددون العمال بفقدان وظائفهم إن تجرؤوا على الاعتراض، أو يمتنعون عن دفع أجورهم بحجة انتظار استكمال أوراق الإقامة. وقال علي، عامل من الهند يعمل في مطعم بباريس، إن رؤساءه مارسوا ضده إهانات عنصرية وضغطاً نفسياً متواصلاً، لكنه لم يكن قادراً على الشكوى، مضيفاً: "كانوا يذكروننا دائماً أننا يمكن أن نفقد إقامتنا في أي لحظة".

أعطال وجهود للمعالجة

المديرية العامة للأجانب في فرنسا اعترفت من جانبها بوجود أعطال متكررة في منصة "ANEF"، لكنها قالت إنها تعمل على تحسين النظام الإلكتروني وزيادة قدرة الدعم الفني، وأوضح مصدر في وزارة الداخلية أن آلية الإبلاغ عن الأخطاء أصبحت أكثر تنظيماً منذ عام 2024، وأن الجهود متواصلة لمعالجة التأخيرات، لكن بالنسبة للمنظمات الحقوقية، فإن هذه الوعود تبقى غير كافية أمام معاناة يومية يعيشها عشرات الآلاف من العمال الذين باتوا رهائن نظام إداري بطيء وغير إنساني.

وتطالب منظمة العفو الدولية السلطات الفرنسية باتخاذ إجراءات عاجلة لتبسيط الإجراءات الإدارية وتوفير حماية حقيقية للعمال المهاجرين، وتشدد على ضرورة اعتماد تصاريح إقامة طويلة الأجل تضمن الاستقرار القانوني وتُحصّن العمال ضد الاستغلال، كما دعت إلى فتح قنوات مباشرة بين الإدارات والمهاجرين لتقليل الاعتماد الكامل على المنصات الرقمية التي أثبتت محدوديتها.

الأزمة الحالية، كما ترى "أمنستي"، لا تمس فقط حقوق المهاجرين، بل تمس صورة فرنسا بوصفها دولة قانون تدّعي حماية الكرامة الإنسانية، فحين يتحول الخطأ الإداري إلى وسيلة لإدامة التهميش والاستغلال، تصبح البيروقراطية شريكاً صامتاً في انتهاك حقوق الإنسان، وبين انتظار المواعيد الإلكترونية الطويلة وخسارة فرص العمل، يدفع آلاف العمال الأجانب في فرنسا ثمناً باهظاً لصراع غير متكافئ بين الإنسان والآلة، وبين القانون والواقع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية