الديمقراطية تحت الضغط.. هل تحظر ألمانيا حزب البديل اليميني قبل أن يهدد دستورها؟
الديمقراطية تحت الضغط.. هل تحظر ألمانيا حزب البديل اليميني قبل أن يهدد دستورها؟
عادت ألمانيا، بعد أكثر من ثمانية عقود على سقوط النازية، إلى مواجهة واحدة من أعقد أزماتها السياسية والفكرية تتجسد في كيف تتعامل ديمقراطية ليبرالية مستقرة مع حزب سياسي يتنامى تأثيره، لكنه يُتهم بتقويض الأسس التي قامت عليها تلك الديمقراطية؟
هذا السؤال أعاد طرحه الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير خلال إحياء ذكرى "ليلة الكريستال"، حين لمح إلى إمكانية حظر حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، الذي يتصدر استطلاعات الرأي في بعض الولايات الشرقية، ويحتل اليوم المرتبة الثانية في البرلمان الألماني "البوندستاج".
كانت كلمات شتاينماير بمثابة ناقوس إنذار، في بلد لا يزال يعيش في ظل ذاكرة ثقيلة من الفاشية، ومع ازدياد نفوذ الحزب الذي يتبنى خطابًا معاديًا للهجرة والاتحاد الأوروبي، يرى كثيرون أن ألمانيا تواجه اختبارًا جديدًا لصلابة دستورها الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية، بحسب صحيفة "ذا تايمز" البريطانية.
الخلفية التاريخية والسياسية
نشأ حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) عام 2013 كحركة احتجاجية ضد سياسات الاتحاد الأوروبي، قبل أن يتحول تدريجيًا إلى حزب قومي شعبوي يعتمد خطابًا مناهضًا للهجرة والإسلام والعولمة.
بلغ الحزب ذروة نفوذه بعد أزمة اللاجئين عام 2015، حين فتحت المستشارة أنغيلا ميركل حدود البلاد أمام مئات الآلاف من طالبي اللجوء، وهو القرار الذي استثمره الحزب سياسيًا ليصعد إلى البرلمان للمرة الأولى عام 2017 بنسبة 12.6% من الأصوات.
ومنذ ذلك الحين، تموضع حزب البديل كأحد أبرز قوى المعارضة في البوندستاج، مستندًا إلى قاعدة جماهيرية واسعة في شرق البلاد، لا سيما في ولايات سكسونيا وتورينغن وبراندنبورغ، وتشير استطلاعات الرأي الحديثة إلى أن الحزب قد يحصد أكثر من 30% من الأصوات في الانتخابات الإقليمية المقبلة عام 2026.
لكن هذا الصعود ترافق مع جدل متزايد حول خطاب الحزب الذي يُتهم بالتحريض على الكراهية العرقية، والتشكيك في المؤسسات الديمقراطية، وتبني مواقف قريبة من الحركات اليمينية المتطرفة.
تحذير رئاسي ورسالة تاريخية
في خطاب مؤثر بمناسبة ذكرى "ليلة الكريستال"، التي شهدت حملة منظمة ضد اليهود في ألمانيا النازية عام 1938، دعا الرئيس شتاينماير الأحزاب الديمقراطية إلى عدم التعاون مع المتطرفين، مشددًا على أن درس التاريخ هو أن الأنظمة الشمولية لا تصعد إلا عندما تتساهل الديمقراطيات في التصدي لها.
وقال شتاينماير: "أي حزب يسلك طريق العداء العدواني للدستور يجب أن يضع في اعتباره دائمًا احتمال حظره"، وأضاف أن حظر الأحزاب هو “الملاذ الأخير”، لكنه يظل خيارًا مشروعًا عندما تسعى جهة سياسية لتقويض النظام الديمقراطي أو استبداله بنظام غير ليبرالي.
كلمات الرئيس لم تذكر حزب البديل بالاسم، لكنها جاءت في سياق تصاعد الجدل حول مطالبة أكثر من 150 نائبًا في البرلمان بتقديم التماس إلى المحكمة الدستورية للنظر في إمكانية حظر الحزب أو تجميد تمويله من أموال الدولة، وهي صلاحية تكفلها المادة 21 من الدستور الألماني.
مخاوف سياسية وحقوقية
في المقابل، يحذر مراقبون قانونيون وحقوقيون من أن اللجوء إلى الحظر قد يخلق مفارقة ديمقراطية، إذ قد يؤدي إلى تقويض الحريات التي يفترض أن يحميها الدستور ذاته، ويرى بعض المحللين أن حظر حزب يحظى بتأييد أكثر من ربع الناخبين قد يُفسَّر كعمل استبدادي ويمنحه زخماً سياسياً إضافياً من خلال تصوير نفسه ضحية لنظام النخبة.
وقالت منظمة العفو الدولية في ألمانيا إن أي خطوة من هذا النوع يجب أن تستوفي المعايير القانونية الصارمة المنصوص عليها في الدستور، مؤكدة أن “حظر الأحزاب يجب ألا يستخدم كأداة سياسية، بل كخيار استثنائي لحماية الديمقراطية من خطر حقيقي ومثبت قانونيًا.
كما حذر مجلس أوروبا في بيان منفصل من أن الردود القمعية على الأحزاب الشعبوية قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم تُصمم بعناية وشفافية، داعيًا إلى مواجهة التطرف عبر التثقيف والمساءلة السياسية، وليس فقط عبر المنع القضائي.
المحكمة الدستورية وقيود القانون
تاريخيًا، لم تلجأ ألمانيا الاتحادية إلى حظر الأحزاب إلا في حالتين فقط منذ الحرب العالمية الثانية هما حظر الحزب النازي الجديد عام 1952، وحظر الحزب الشيوعي الألماني عام 1956، وكلاهما تم بقرار من المحكمة الدستورية العليا في كارلسروه.
وفي عام 2017، رفضت المحكمة طلبًا لحظر الحزب القومي الديمقراطي (NPD) رغم اعترافها بتطرفه، مبررة قرارها بأنه لا يشكل تهديدًا فعليًا للنظام الديمقراطي بسبب ضعفه الشعبي.
من هذا المنطلق، يرى خبراء القانون الدستوري أن أي محاولة جديدة لحظر البديل من أجل ألمانيا ستواجه عقبة مشابهة، إذ لا يكفي إثبات الطابع المتطرف لأفكار الحزب، بل يجب إثبات أنه يشكل خطرًا ملموسًا على النظام الديمقراطي.
وسارع حزب البديل إلى الرد على تصريحات الرئيس شتاينماير، معتبرًا أنها تحريض سياسي ضد المعارضة الشرعية، وقال قادته إن الحزب لا يتبنى أي مواقف مناهضة للدستور، بل يعبر عن صوت المواطنين المنسيين، مشيرين إلى أن الحكومة نفسها تبنت كثيرًا من سياساته المتعلقة بالهجرة وتشديد الرقابة على الحدود.
وقالت أليس فايدل، إحدى زعيمتي الحزب، في بيان: "كلما ازداد تأييد المواطنين لنا، لجأت النخبة إلى شيطنتنا بدلًا من الحوار معنا، إن التلويح بالحظر لن يخيفنا، بل سيكشف عن فشل المؤسسة الحاكمة في الاستماع للشعب".
أزمة الهوية السياسية
يرى مراقبون أن الجدل حول حزب البديل يعكس أزمة أعمق تتعلق باتجاهات الهوية السياسية في ألمانيا الحديثة، فبعد عقود من التوافق الاجتماعي والاقتصادي، تشهد البلاد استقطابًا غير مسبوق حول قضايا الهجرة، الأمن، والطاقة، ما أدى إلى اتساع الهوة بين شرق البلاد وغربها.
وتشير بيانات معهد فورتسبورغ للدراسات الاجتماعية (2025) إلى أن نسبة تأييد البديل في شرق ألمانيا تجاوزت 30%، مقارنة بـ 14% فقط في الغرب، ويُعزى ذلك إلى شعور سكان الشرق بالتهميش الاقتصادي والسياسي منذ إعادة توحيد ألمانيا عام 1990.
البعد الإنساني والاجتماعي
وراء الخطاب السياسي الحاد، تكمن تداعيات إنسانية ملموسة، خاصة على المهاجرين واللاجئين الذين يشكلون هدفًا متكررًا لهجمات اليمين المتطرف، ووفق بيانات وزارة الداخلية الألمانية لعام 2024، فقد تم تسجيل أكثر من 2300 حادثة كراهية ضد المهاجرين خلال العام، بزيادة قدرها 28% مقارنة بالعام السابق، معظمها ارتكبها متعاطفون مع اليمين المتشدد.
وترى منظمات إنسانية مثل "برو أزول" أن تصاعد الخطاب المعادي للأجانب يخلق مناخ خوف دائم بين اللاجئين، خاصة السوريين والأفغان، الذين يشعرون بأنهم أصبحوا وقودًا في معركة سياسية داخلية.
في بروكسل، عبّرت المفوضية الأوروبية عن قلقها العميق من انتشار الحركات الشعبوية في أوروبا، مؤكدة أن صعود حزب البديل ليس شأنًا ألمانيًا بحتًا بل مؤشرًا على أزمة ثقة أوسع في الديمقراطيات الغربية.
أما الأمم المتحدة، من خلال مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، فقد حذّرت من أن الخطابات التي تميز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين تتناقض مع التزامات ألمانيا الدولية بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.











