من إدلب إلى حلب.. معلمو الشمال السوري يرفعون الصوت: لا تعليم بلا كرامة

من إدلب إلى حلب.. معلمو الشمال السوري يرفعون الصوت: لا تعليم بلا كرامة
جانب من إضراب المعلمين في سوريا

يشهد شمال سوريا منذ مطلع نوفمبر موجة متصاعدة من الإضرابات والاحتجاجات التعليمية غير المسبوقة منذ انتهاء المعارك الكبرى في المنطقة، فقد أعلن المعلمون في إدلب وريفها، ثم في مارع وإعزاز بريف حلب الشمالي، إضرابًا عامًا عن الدوام، شمل أكثر من 245 مدرسة، ورافقته وقفات احتجاجية لطلاب الجامعات، في ما وصفه المرصد السوري لحقوق الإنسان، اليوم الثلاثاء، بأنه “أوسع تحرك تعليمي منذ سنوات الحرب”.

التحركات التي بدأت في إدلب تحت شعار "إضراب الكرامة" سرعان ما امتدت إلى مناطق أخرى من الشمال السوري كاشفةً عن أزمة متجذرة تضرب عمق المنظومة التعليمية في البلاد، وتطرح أسئلة إنسانية ومجتمعية كبرى حول مستقبل ملايين الأطفال السوريين الذين يجدون أنفسهم اليوم خارج مقاعد الدراسة.

أسباب الإضراب واتساع رقعته الجغرافية

بدأت الشرارة الأولى للإضراب من إدلب، احتجاجًا على تدهور أوضاع المعلمين المعيشية، وانخفاض أجورهم إلى مستويات لا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، في ظل موجة غلاء غير مسبوقة وتضخم متسارع، ويقول المعلمون إن وعود الجهات المعنية برفع الرواتب وتحسين ظروف العمل ظلت حبراً على ورق، بينما استمرت الفجوة في الأجور مقارنة بقطاعات أخرى.

وفي وقت لاحق، أعلنت الكوادر التعليمية في مارع وإعزاز بريف حلب الشمالي انضمامها إلى موجة الإضراب، حيث شهدت المدينتان وريفهما إضرابًا عامًا للمعلمين، مصحوبًا بوقفات احتجاجية لطلاب الجامعات تندد بعدم الاعتراف بالشهادات الجامعية الصادرة عن مؤسسات التعليم في الشمال.

في مارع، شمل الإضراب عشرات المدارس، من بينها مدارس الشهيد عبد القادر الصالح، الحميدية المحدثة، تلالين الإعدادية، ثانوية مارع للبنين، عمر بن الخطاب، وثانوية مارع للبنات.

أما في إعزاز، فقد نظم طلاب كلية العلوم الإسلامية بجامعة غازي عنتاب وقفة احتجاجية أمام مبنى الجامعة، رفضًا لعدم اعتراف وزارة التعليم العالي بشهاداتهم، وهو ما حرمهم من متابعة دراساتهم العليا أو العمل في مجالاتهم التخصصية. وتضامنت معهم فروع الجامعة في الباب وعفرين، التي شهدت بدورها احتجاجات مماثلة.

المرصد السوري لحقوق الإنسان أكد أن حملة إضراب الكرامة تحولت من تحرك مهني محدود إلى حركة مطلبية ذات طابع مجتمعي، تتقاطع فيها معاناة المعلمين والطلاب معًا في مواجهة تدهور شامل في قطاع التعليم.

تداعيات إنسانية وتعليمية عميقة

يمثل توقف العملية التعليمية في مناطق إدلب وحلب الشمالي ضربة قاسية للأطفال في سوريا، الذين يعانون أصلاً من تداعيات الحرب والنزوح والفقر، ومع استمرار الإضراب، وجد عشرات الآلاف من الأطفال أنفسهم مجددًا خارج الصفوف الدراسية، خصوصًا في المدارس الواقعة ضمن المخيمات أو المناطق الريفية.

ويحذر ناشطون تربويون من أن تعطّل المدارس قد يدفع الأطفال إلى سوق العمل أو إلى التسول في الشوارع، ما يعيد إنتاج دوائر الفقر والجهل في مجتمعاتهم، كما يهدد تكرار الإضرابات بزيادة معدلات التسرب الدراسي، التي بلغت وفق تقارير الأمم المتحدة أكثر من 2.4 مليون طفل سوري خارج التعليم، فيما لم يلتحق 18 بالمئة من الأطفال بالمدارس على الإطلاق.

ويشير تقرير صادر عن اليونيسف في منتصف عام 2024 إلى أن 6.5 مليون طفل سوري بحاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية، نصفهم يعيشون في مناطق الشمال، حيث يتداخل غياب الدعم الدولي مع الانقسامات الإدارية والاقتصادية.

ردود الفعل المحلية والدولية

لقي الإضراب صدى واسعًا بين المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، فقد أصدر المرصد السوري لحقوق الإنسان بيانًا دعا فيه إلى ضرورة دعم المعلمين وتأمين رواتب عادلة تضمن لهم حياة كريمة، مشددًا على أن التعليم ليس ترفًا بل حقًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه.

وأعربت منظمات أممية مثل اليونيسكو واليونيسف عن قلقها البالغ من استمرار تدهور التعليم في سوريا، محذّرة من أن انهيار المنظومة التعليمية سيترك آثارًا دائمة على التنمية البشرية لعقود قادمة، ودعت إلى ضرورة حماية المؤسسات التعليمية من الاستغلال السياسي والعسكري، وضمان تمويل مستدام لبرامج التعليم في حالات الطوارئ.

أما هيومن رايتس ووتش، فقد اعتبرت في تقريرها السنوي الأخير أن إغلاق المدارس في شمال سوريا يقوّض حق الأطفال في التعليم ويشكل انتهاكًا صريحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وطالبت الأطراف المحلية والإقليمية بضمان بيئة تعليمية آمنة ومستقلة، وتفادي استخدام المدارس كملاجئ أو مقار عسكرية.

طلاب بين الأمل والخذلان

لا يقتصر الحراك التعليمي على المعلمين فقط، إذ يواجه طلاب الجامعات في المناطق الشمالية مأزقًا قانونيًا وأكاديميًا بسبب عدم اعتراف الحكومة السورية أو أي جهة دولية بشهاداتهم، ووفق ما رصده المرصد السوري، فقد خرج عشرات الطلاب في مارع وإعزاز والباب احتجاجًا على هذا الوضع، مطالبين بآلية دولية تضمن الاعتراف بمخرجات التعليم في الجامعات العاملة ضمن الشمال السوري.

ويرى أكاديميون محليون أن استمرار هذا الوضع يكرس حالة العزلة الأكاديمية، ويحرم آلاف الخريجين من فرص العمل داخل سوريا أو خارجها، وهو ما يجعل التعليم في تلك المناطق، رغم الجهود المحلية، أقرب إلى نظام موازٍ غير معترف به دوليًا، ما يهدد بفقدان ثقة الأجيال الجديدة بالعملية التعليمية برمتها.

الانهيار البنيوي للمنظومة التعليمية

منذ عام 2011، تضرر أكثر من ثلث المدارس السورية بفعل القصف أو تحويلها إلى ملاجئ للنازحين أو مواقع عسكرية، ووفق تقديرات الأمم المتحدة، فإن نحو 70 بالمئة من المدارس في إدلب وريف حلب بحاجة إلى ترميم عاجل أو إعادة تأهيل.

وتعمّق الانقسام السياسي بين مناطق النفوذ المختلفة -النظام، المعارضة، والإدارة الذاتية- في تفكيك المشهد التعليمي، إذ باتت كل منطقة تتبع منهجًا دراسيًا خاصًا بها، ما أدى إلى فقدان وحدة الشهادة السورية كمؤهل وطني معترف به، هذا التعدد في المناهج انعكس سلبًا على مستوى الطلاب وتكافؤ فرصهم التعليمية، وجعل التعليم رهينة للتجاذبات السياسية.

الأطفال ضحايا الأزمات المتراكمة

وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان خلال الاحتجاجات مشاركة أطفال في وقفات احتجاجية وهم يحملون لافتات سياسية ودينية، وهو ما اعتبره انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقية حقوق الطفل التي تحظر استغلال القاصرين في النزاعات السياسية أو العسكرية.

ويشير خبراء اجتماعيون إلى أن هؤلاء الأطفال ضحايا لانهيار البنية التعليمية والاقتصادية، حيث حُرموا من التعليم والتوعية، ما جعلهم عرضة للتجنيد الفكري أو للعمل المبكر.

القانون الدولي والمسؤولية الجماعية

تنص اتفاقية حقوق الطفل (1989) على أن التعليم حق أساسي لكل طفل، وأن على الدول الأطراف اتخاذ جميع التدابير الممكنة لضمان استمرار التعليم حتى في حالات النزاع المسلح، كما تلزم المادة 50 من اتفاقية جنيف الرابعة أطراف النزاع بضمان استمرار العملية التعليمية للأطفال.

ورغم ذلك، تشير التقارير الأممية إلى أن معظم الأطراف المتحكمة في شمال سوريا لم تفِ بالتزاماتها تجاه التعليم، سواء من حيث التمويل أو حماية المدارس والمعلمين من التهديدات الأمنية والاقتصادية.

تكشف موجة الإضرابات في إدلب، مارع، وإعزاز عن عمق الأزمة التي يعيشها التعليم السوري بعد أكثر من عقد من الصراع، إنها ليست مجرد احتجاجات مهنية على الأجور، بل نداء إنساني من معلمين وطلاب فقدوا الثقة في نظام قادر على ضمان مستقبلهم، وبينما تتزايد أعداد المدارس المغلقة والأطفال المتسربين، تتقلص فرص النهوض بجيل جديد يمتلك المعرفة والأمل.

في ظل هذا الواقع، تبدو استعادة التعليم في سوريا مسؤولية وطنية ودولية مشتركة، تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز المساعدات المؤقتة نحو إصلاح حقيقي يضع الإنسان، لا السياسة، في قلب العملية التعليمية، فكل يومٍ يُغلق فيه باب مدرسة شمال سوريا، يُغلق معه باب آخر في وجه مستقبل البلاد بأكملها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية