مختبرات وموارد غير متوفرة.. سوريا تبحث عن مفقوديها بين المقابر والذاكرة الجماعية
مختبرات وموارد غير متوفرة.. سوريا تبحث عن مفقوديها بين المقابر والذاكرة الجماعية
أفادت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا بأن عدداً كبيراً من كوادرها ما زال بحاجة إلى تدريب وتقنيات ومختبرات متخصصة لتمكينهم من التعامل مع واحد من أعقد ملفات البلاد وأكثرها حساسية، وأكدت المتحدثة الرسمية باسم الهيئة زينة شهلا أن تحقيق تقدم حقيقي في هذه القضية يتطلب توافر قدرات مهنية متقدمة غير متاحة حالياً داخل سوريا، الأمر الذي يفرض تحديات مباشرة على جهود الكشف عن مصير مئات الآلاف من الضحايا المفقودين.
وقالت شهلا، في تصريحات أوردتها قناة "الإخبارية" السورية اليوم الاثنين، إن الهيئة تعمل ضمن خطوات تهدف إلى تزويد فرقها بالخبرات التقنية المطلوبة للتعامل مع الملفات الأمنية والإنسانية الضخمة المرتبطة بالمفقودين، مؤكدة أن النقص في القدرات المتاحة يمثل معوقاً واضحاً أمام إحراز تقدم ملموس.
الحاجة إلى تدريب وتكنولوجيا
أوضحت شهلا أن الحاجة باتت ملحة لتوقيع مذكرات تفاهم إضافية مع جهات خارجية، بهدف تدريب الكوادر الوطنية وتزويد الهيئة بالمعدات التي لا تتوفر محلياً، سواء في مجالات الطب الشرعي أو تحليل المعلومات أو إدارة قواعد البيانات المتعلقة بالمفقودين، وأشارت إلى أن البحث في عشرات الآلاف من الملفات والوثائق، والتحقق من المقابر الجماعية التي يجري اكتشافها بشكل شبه يومي في مختلف المناطق السورية، يتطلب خبرات متخصصة وأجهزة تقنية متطورة.
وأكدت أن سوريا تفتقر إلى المختبرات المتقدمة الخاصة بتحليل الحمض النووي، وهي مختبرات شديدة التكلفة وغير موجودة داخل البلاد، ما يجعل عمليات التحقق الهوية وحسم مصير كثير من الحالات أمراً بالغ الصعوبة، وقالت شهلا إن الهيئة تسعى للحصول على دعم دولي في هذا المجال، باعتبار أن قضية المفقودين تمثل أولوية إنسانية تتجاوز الحدود السياسية.
وتحدثت المتحدثة باسم الهيئة عن اللقاءات الدورية التي تعقد مع عائلات المفقودين، بهدف الاستماع إلى رواياتهم وتوثيق شهاداتهم، وتوضيح سير العمل والإجراءات المتبعة في البحث، وأكدت أن الحوار المستمر مع العائلات يشكل جزءاً أساسياً من عمل الهيئة، نظراً لما يوفره من معلومات دقيقة تسهم في تكوين صورة أوضح عن حالات الاختفاء.
وأشارت شهلا إلى أن الكثير من العائلات تعيش منذ سنوات حالة انتظار مؤلم لخبر واحد يحدد مصير أحبائها، وأن التواصل مع هذه الأسر يعد مسؤولية أخلاقية ومهنية، ويشكل إسهاماً في تخفيف العبء النفسي عنها.
غياب قاعدة بيانات مركزية
وقالت شهلا إن الهيئة الوطنية للمفقودين تعمل على إنشاء قاعدة بيانات وطنية خاصة بالمفقودين، نظراً إلى الحاجة الملحة لوجود سجل موحد يسهل إدارة المعلومات المتراكمة، وأكدت أن غياب قاعدة بيانات موحدة يعد أحد أبرز التحديات التي تواجه عمل الهيئة، إذ تشير التقديرات إلى أن عدد المفقودين قد يصل إلى مئات الآلاف منذ بداية النزاع السوري.
وتعد قاعدة البيانات خطوة أساسية لتنظيم المعلومات وربطها بالتحقيقات الميدانية، ولضمان عدم ضياع الأدلة أو تضاربها، ولجمع البيانات البيومترية التي يمكن الاستناد إليها في مراحل لاحقة من عمليات التحقق والبحث.
الزمن الطويل الذي مر على حالات الاختفاء، وانتشار المقابر الجماعية في مناطق متعددة، وتداخل مسؤوليات أطراف عدة داخل البلاد وخارجها، كلها عوامل تجعل مهمة الهيئة شديدة التعقيد، ويرى متخصصون أن التعامل مع هذا الملف يحتاج إلى خبرات دولية، خصوصاً في مجالات استخراج الرفات وإعادة بنائها وتحليل الحمض النووي، إضافة إلى قراءة الوثائق الأمنية التي قد تتضمن معلومات حساسة أو مشفرة.
وأوضحت شهلا أن حجم الملف يتجاوز قدرات المؤسسات المحلية، سواء على مستوى الموارد أو الخبرات المتخصصة، الأمر الذي يجعل التعاون الدولي أمراً ضرورياً لا خياراً، وقالت إن الهيئة تهدف إلى بناء منظومة مهنية مستقلة وقادرة على العمل بمعايير دولية، لكنها تحتاج إلى شراكات واسعة للوصول إلى هذا المستوى.
ظروف إنشاء الهيئة
أُنشئت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا بمرسوم صدر في السابع عشر من مايو عام 2025، بوصفها هيئة مستقلة تهدف إلى البحث عن مصير المفقودين والمغيبين قسراً وإنصاف ذويهم، وجاء تأسيسها بعد سنوات من المطالبات المتواصلة من أسر الضحايا ومنظمات حقوقية سورية ودولية، في ظل تزايد أعداد المقابر الجماعية وتصاعد حجم الملفات المتعلقة بالاختفاء.
وتحاول الهيئة أن تقدم إطاراً مؤسساتياً رسمياً لمعالجة هذا الملف، بعد أن ظل لفترة طويلة محاطاً بالغموض، وفي كثير من الأحيان خارج نطاق المؤسسات الرسمية.
القضية ليست مجرد أرقام أو وثائق، بل هي مأساة إنسانية ممتدة يعيشها مئات الآلاف من العائلات التي تبحث منذ سنوات عن أثر لمن فقدتهم، كثير من الأسر فقدت أكثر من فرد واحد، وبعضها لم تتلقَّ أي معلومة منذ بداية النزاع، ما جعل الكثيرين يعيشون بين أمل هش وخوف دائم.
عائلات المفقودين تتحدث عن مشاعر الانتظار الطويل، وعن محاولات متكررة للبحث، سواء في سجلات المستشفيات أو لدى السلطات أو عبر منظمات حقوقية، وعن صعوبة الحياة اليومية في ظل غياب الحقيقة، ويقول ذوو المفقودين إنهم يريدون معرفة المصير قبل أي مطالبة أخرى؛ لأن الحقيقة بالنسبة لهم هي الخطوة الأولى نحو التعافي.
مواقف المنظمات الدولية
تؤكد الأمم المتحدة أن عدد المفقودين في سوريا يقدر بمئات الآلاف، ومعظمهم فُقد خلال فترة حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، وتعد المنظمة الدولية أن قضية المفقودين واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في مسار العدالة والإنصاف في سوريا.
وفي تقاريرها المتتالية، شددت الأمم المتحدة على ضرورة توفير دعم واسع لإنشاء آليات مستقلة للكشف عن مصير المفقودين، ومنها المختبرات المتخصصة وفِرق البحث الجنائي وعمليات التوثيق ومنصات جمع البيانات، وأوضحت أن هذه الجهود لا يمكن أن تحقق نتائج مستدامة إلا من خلال تعاون كامل مع مؤسسات محلية مستقلة تتولى مسؤولية إدارة الملف.
وترى المنظمات الدولية أن مصير المفقودين يمثل نقطة مفصلية في أي عملية سياسية مستقبلية في البلاد؛ لأن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تكتمل من دون كشف الحقيقة وضمان حق العائلات في معرفة مصير أبنائها.
ملف المفقودين في سوريا يعد من أضخم ملفات الاختفاء القسري في القرن الحادي والعشرين. تشير التقديرات الدولية إلى أن أعداد المفقودين تتراوح بين مئتي ألف إلى أكثر من ثلاثمئة ألف شخص، بينهم مدنيون وعسكريون ومعارضون ومعتقلون وشبان اعتقلوا في حواجز الطرق خلال سنوات الحرب.
وتنتشر المقابر الجماعية في مناطق مختلفة من البلاد، بعضها موثق رسمياً وبعضها اكتشفه السكان المحليون بالمصادفة. وبينما يسعى البعض إلى الحفاظ على الأدلة، تتعرض مواقع أخرى للطمس والتغيير بسبب الظروف الأمنية.
عمليات تحليل الرفات وإعادة بناء الأدلة تحتاج إلى قدرات تقنية متقدمة غير موجودة في سوريا حالياً، وتشمل مختبرات الحمض النووي وأجهزة المسح ثلاثي الأبعاد وأنظمة إدارة البيانات البيومترية، وهي تقنيات تستخدمها فرق التحقيق الدولية في حالات مشابهة حول العالم.
ويجمع خبراء العدالة الانتقالية على أن نجاح أي مسار للسلام في سوريا يرتبط بشكل وثيق بكشف مصير المفقودين، وتحديد المسؤوليات، وضمان حق الأسر في الحقيقة والعدالة.











