ما بعد ذروة السكان.. تحولات ديموغرافية تُعيد صياغة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عالمياً
ما بعد ذروة السكان.. تحولات ديموغرافية تُعيد صياغة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عالمياً
يدخل العالم مرحلة ديموغرافية جديدة ستقلب أولوياته رأسًا على عقب، بعد أن أصبحت احتمالات بلوغ عدد سكان الأرض ذروته خلال هذا القرن تصل إلى 80%، مقارنة باحتمال لم يتجاوز 30% قبل عشر سنوات، وفقا لتقرير نشرته "فايننشيال تايمز"، اليوم الأربعاء.
يُعيد هذا التحول رسم خريطة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويضع الإنسانية أمام أسئلة عميقة تتعلق بالحماية الاجتماعية، والحق في الشيخوخة الكريمة، والحق في التنمية المتوازنة، وحقوق النساء في اتخاذ القرارات الإنجابية بحرية دون ضغط أو قيود.
وتُوضّح الأمم المتحدة، في تقريرها المعنون بـ"توقعات سكان العالم 2024"، أن العدد الحالي للسكان، البالغ 8.2 مليار نسمة، سيرتفع إلى 10.3 مليار في منتصف ثمانينيات القرن الحالي، ثم سيتراجع بشكل طفيف إلى 10.2 مليار مع نهاية القرن.
ويُشير وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، لي جون هوا، إلى أن المشهد الديموغرافي العالمي تطوّر بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، مدفوعًا أساسًا بانخفاض الخصوبة في كبرى دول العالم.
يُظهر هذا التغير أن ربع سكان العالم يعيشون بالفعل في دول بلغ عدد سكانها ذروته، كما يؤكد تحليل فايننشيال تايمز، وتشمل هذه الدول الصين وألمانيا واليابان، وتتوقع الأمم المتحدة انضمام دول أخرى، مثل البرازيل وإيران وتركيا، خلال الثلاثين سنة المقبلة.
إعادة التفكير في منظومات الحماية
يفتح هذا الواقع الباب أمام ضرورة إعادة التفكير في منظومات الحماية الاقتصادية والاجتماعية من منظور حقوقي، فمجتمع يقلّ فيه عدد الشباب ويرتفع فيه عدد كبار السن، لا يواجه مشكلة اقتصادية فقط، بل تحديًا يتعلق بالحق في المعاش اللائق، والحق في الصحة، والحق في عدم التمييز على أساس العمر.
كما يطرح سؤالًا أساسيًا حول كيفية ضمان بقاء حقوق الأجيال الشابة غير منهكة بعبء رعاية أجيال أكبر منها عدداً وأطول عمراً.
يُثير الاتجاه العالمي لتراجع الخصوبة جدلًا واسعًا حول أسباب اختيار النساء إنجاب عدد أقل من الأطفال، وحول ما إذا كان من المناسب اتخاذ إجراءات سياسة للتشجيع على الإنجاب.
ويرتبط هذا الجدل مباشرة بحقوق النساء الإنجابية وحقهن في اتخاذ القرار دون إكراه، سواء كان الإكراه اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا.
ويُشير النص إلى أن هذا التوجه لا يقتصر على دول غنية أو فقيرة، محافظة أو ليبرالية، ما يعني أن الظاهرة تتجاوز حدود الثقافات والأنظمة السياسية، وتحتاج إلى معالجة حقوقية لا تختزل النساء في دور الإنجاب فقط.
شيخوخة العالم
تُبرز صحيفة "الغارديان" مشكلة تسارع الشيخوخة السكانية دون استعداد كافٍ، فقد أعلن المكتب الوطني للإحصاء في الصين أن عدد سكان البلاد انخفض في عام 2023 بمقدار 2.75 مليون نسمة، بنسبة 0.2%، ليصل إلى 1.409 مليار نسمة.
وتوضح الصحيفة أن هذا الانخفاض يتجاوز بكثير الرقم المسجل في عام 2022، الذي بلغ 850 ألف نسمة، وكان أول انخفاض منذ المجاعات الكبرى في عهد ماو.
وتوضح أن معدل المواليد في الصين بلغ 6.39 ولادة لكل 1000 نسمة، وهو الأدنى على الإطلاق، بينما ارتفع معدل الوفيات بنسبة 6.6% ليصل إلى 11.1 مليون وفاة، وهو أعلى مستوى منذ عام 1974، وترتبط هذه الأرقام مباشرة بسياسات الدولة السابقة، خاصة سياسة الطفل الواحد، إضافة إلى إحجام الشباب عن الإنجاب بفعل ارتفاع تكاليف المعيشة وضعف الدعم المقدم للنساء العاملات.
يُحذّر الخبراء الصينيون، من "قنبلة ديموغرافية موقوتة" تهدد الاقتصاد وتهدد كذلك منظومة حقوق كبار السن، فقد توقعت الأكاديمية الصينية للعلوم الحكومية أن نظام التقاعد الحالي سينفد من الأموال بحلول عام 2035.
وبحلول ذلك التاريخ، سيرتفع عدد من تزيد أعمارهم على 60 عامًا من 280 مليونًا إلى 400 مليون، ما يثير أسئلة عميقة حول قدرة الدولة على ضمان الحق في الرعاية الصحية والحق في المعاش الكريم.
يُظهر هذا المثال ما أشارت إليه "فايننشيال تايمز": أن انخفاض عدد العاملين مقارنة بعدد كبار السن يعني نقصًا في المال، ونقصًا في النمو، ونقصًا في الابتكار، لكن في المقابل، تعرض "الغارديان" منظورًا أكثر تفاؤلاً يعتمد على تطور الصحة العامة وتأخر مظاهر الشيخوخة.
فقد أوضح التقرير أن النساء في المملكة المتحدة عام 2017 كن يتمتعن بصحة مماثلة لصحة من كن في الستين من العمر عام 1981، ويرتبط هذا مباشرة بالحق في الصحة كأحد أعمدة العدالة الاجتماعية.
القدرات المعرفية البشرية
تُظهر الدراسات التي نقلتها "فايننشيال تايمز" أن القدرات المعرفية البشرية أكثر مرونة مما كان يُعتقد سابقًا، وأن العديد من كبار السن يمكنهم الحفاظ على مهاراتهم عبر مواصلة التدريب الذهني، وهذا يؤكد حق كبار السن في المشاركة الاقتصادية وعدم إقصائهم لمجرد بلوغهم سنًا معيّنًا، وهو مبدأ أساسي في حماية الحقوق الاجتماعية.
تُشير الصحيفة أيضًا إلى مثال كوريا الجنوبية، التي تُنتج رغم تقدّم سكانها في السن ثقافة شبابية عابرة للحدود تشمل الموسيقى والأزياء والأفلام، ويؤكد هذا أن الديناميكية الثقافية ليست مرهونة بعدد الولادات فقط، بل بقدرة المجتمعات على الابتكار وحماية الحق في المشاركة الثقافية لجميع الفئات العمرية.
ويفتح العالم المتقلص بابًا جديدًا لمقاربة قضايا الهجرة من منظور حقوق الإنسان، فبدل أن تُعامل الهجرة بوصفها خطرًا أو تهديدًا، تُشير "فايننشيال تايمز" إلى احتمال أن تتحول الدول الغنية إلى منافسة لجذب المهاجرين الشباب، مع تراجع عدد سكانها وشيخوخة مجتمعاتها، ويعني هذا أن الحق في التنقل والحق في عدم التمييز ضد المهاجرين سيصبحان مسائل أساسية في السياسات المستقبلية، وليس مجرد قضايا أخلاقية.
وتعرض الصحيفة رؤية جديدة لسوق العمل في عالم يعاني من انخفاض عدد السكان، فبينما يخشى كثيرون اليوم من فقدان وظائفهم لصالح الروبوتات، تشير إلى احتمال أن المشكلة المستقبلية ستكون في عدم وجود ما يكفي من الروبوتات، خصوصًا في الأعمال البدنية.
ويؤكّد رئيس شركة OpenAI، المدير التنفيذي سام ألتمان، أن التوقعات التقليدية بانخفاض تأثير الذكاء الاصطناعي على العمل البدني أولاً ثم المعرفي لم تعد صحيحة، بعد تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي قلب هذه المعادلة.
يُبرز هذا التحول أهمية حماية حقوق العمال، خصوصًا كبار السن، عبر الحفاظ على وظائف معرفية تسمح لهم بالبقاء نشطين اقتصاديًا ومرفوعين الكرامة، مقابل أتمتة الوظائف البدنية التي تتطلب مجهودًا لا يتناسب مع قدراتهم. ويمثل هذا التوجه جزءًا من حق الإنسان في العمل اللائق.
وتُشير الأمم المتحدة، في تقريرها، إلى أن عدد الأشخاص الذين سيبلغون 65 عامًا أو أكثر سيرتفع إلى 2.2 مليار نسمة بحلول أواخر سبعينيات القرن الحالي، وهو رقم يتجاوز عدد من تقل أعمارهم عن 18 عامًا.
وتفتح هذه الحقيقة الباب أمام تساؤلات حقوقية عميقة تتعلق بحقوق الأطفال وحقوق المسنين معًا، وكيفية توزيع الموارد والخدمات بعدالة بين الأجيال.
تجعل هذه التقارير مجتمعة المستقبل الديموغرافي فرصة لإعادة التفكير جذريًا في شكل الحقوق الإنسانية، فالعالم بعد "ذروة السكان" لن يكون مجرد عالم بأرقام أقل، بل عالم بأسئلة أكبر حول الحقوق الأساسية: الحق في الرعاية، والحق في عدم التمييز، والحق في اتخاذ القرارات الإنجابية، والحق في العمل اللائق، والحق في الهجرة والتنقل.











