بين العزلة والموت.. ندوة أممية تكشف حجم الخطر الذي يعيشه صحفيو فلسطين
بين العزلة والموت.. ندوة أممية تكشف حجم الخطر الذي يعيشه صحفيو فلسطين
في واحدة من أكثر الندوات تأثيراً، والتي عقدتها الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة، ناقش صحفيون وخبراء ومسؤولون أمميون سؤالين محوريين يشغلان المهتمين بحرية الإعلام حول العالم.. كيف يستمر الصحفيون الفلسطينيون في أداء عملهم داخل واحدة من أخطر الساحات الإعلامية على وجه الأرض حيث يواجهون الموت المباشر وانهيار شبكات الاتصال وتقييد الحركة؟ وما الذي يستطيع المجتمع الدولي تقديمه ليضمن بقاء هذه الأصوات قادرة على رواية الحقيقة وسط صراع لا يتوقف.
الندوة التي عقدت، أمس الاثنين، حملت عنوان كسر الحواجز مواجهة مخاطر وتعقيدات التغطية الإعلامية من غزة والضفة الغربية نظمتها إدارة التواصل العالمي في الأمم المتحدة وشكلت مساحة نادرة لسماع شهادات مباشرة من صحفيين فلسطينيين وإسرائيليين إلى جانب مسؤولين عن حماية الصحفيين دولياً، وقد بدا واضحاً منذ افتتاحها أن القضية تتجاوز كونها نقاشاً مهنياً إلى كونها صرخة لإنقاذ من يقفون في الصف الأول لمهمة نقل المأساة الإنسانية، وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.
وائل الدحدوح ومعركة البقاء
في رسالة مسجلة حضر فيها الألم بقدر الحضور المهني، قدّم الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح شهادة عن تجربة غير مسبوقة كما وصفها، وأوضح أن الصحفيين في غزة وجدوا أنفسهم يحاولون تغطية حرب حوصرت فيها عائلاتهم ومنازلهم ومجتمعاتهم، في حين جرى إغلاق القطاع بالكامل ومنع دخول الصحفيين الأجانب وقطع الكهرباء والاتصال والإنترنت.
أشار الدحدوح إلى أن هذا الانقطاع التام وضع الصحفيين أمام خيار وحيد هو مواصلة عملهم رغم وعيهم بأن كل خروج إلى الميدان قد يكون خطوة أخيرة في حياتهم. وتحدث عن شعور عميق بالمسؤولية تجاه العالم، فقال إنهم يدركون أنهم لو توقفوا عن أداء واجبهم فلن يعرف العالم ما يحدث لملايين المدنيين المحاصرين داخل غزة.
واستعرض الدحدوح الأثمان الباهظة التي دفعها الإعلام الفلسطيني، إذ قتل أكثر من مئتين وخمسين صحفياً وتعرضت عشرات العائلات للإبادة والقصف، في حين يتواصل النزوح بلا توقف، ودعا في ختام رسالته إلى تحرك عالمي يحمي الحقيقة ويضع حداً لمنع تكرار الجرائم ذاتها في أي مكان آخر.
الصحافة رسالة للسلام
وفي كلمتها الافتتاحية شددت وكيلة الأمين العام للتواصل العالمي ميليسا فليمنج على أن موضوع الندوة لا يتصل فقط بمخاطر المهنة، بل يتصل بالشجاعة التي تدفع العاملين في الإعلام إلى قول الحقيقة مهما اشتدت الظروف، وأضافت أن الصحافة المسؤولة يمكن أن تكون جسراً نحو السلام في منطقة يعيش فيها الملايين تحت ثقل العنف اليومي.
ثم تلت رسالة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي وصف واقع الصحفيين في غزة بالمأساوي، مؤكداً أن المخاطر التي يواجهونها هي ذاتها التي يعيشها المدنيون الذين يغطون قصصهم، وأشار إلى أن أكثر 260 إعلامياً قتلوا منذ السابع من أكتوبر، ما يجعل هذا الصراع الأكثر دموية بالنسبة للعاملين في الإعلام منذ عقود طويلة.
وأكد الأمين العام أن القانون الدولي واضح بشأن حماية المدنيين، وأن الصحفيين يجب أن يكونوا قادرين على أداء عملهم دون تهديد أو تدخل، معتبراً أن منع الصحفيين الدوليين من دخول غزة أمر لا يمكن القبول به.
دمار البنية الإعلامية
من جهته قدم ناصر أبو بكر رئيس نقابة الصحفيين الفلسطينيين كلمة مسجلة وصف فيها ما يتعرض له الإعلام الفلسطيني منذ أكتوبر الماضي بأنه مجزرة غير مسبوقة، وقال إن أكثر من 250 مؤسسة إعلامية دمرت بالكامل في غزة، وهو ما يعني انهيار البنية التحتية الإعلامية الأساسية للقطاع، كما كشف أن أكثر من ستمئة وخمسين فرداً من عائلات الصحفيين قتلوا خلال الحرب، ما يجعل الاستهداف ممتداً إلى البيئة الاجتماعية للصحفيين وليس إلى عملهم فقط.
ودعا أبو بكر إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تنظر في الجرائم المرتكبة بحق الإعلاميين وتضع آليات لحمايتهم.
وفي كلمة مسجلة تحدث حجاي مطر المدير التنفيذي لمنصة 972 وهي منظمة إعلامية مستقلة ثنائية القومية تعمل في إسرائيل وفلسطين، وقال إن السنوات الأخيرة شهدت استهدافاً ممنهجاً للصحفيين الفلسطينيين في غزة إلى جانب تقييد صارم لعمل الصحفيين الإسرائيليين والدوليين الذين منعوا من دخول القطاع لأكثر من عامين.
وأوضح مطر أن الصحفيين الفلسطينيين يتحملون وحدهم عبء التغطية الميدانية تحت التهديد المباشر بالقتل أو الاعتقال أو مصادرة المعدات، في حين يتعرضون في الوقت ذاته لحملات تشكيك ونزع للشرعية عبر اتهامهم بالانتماء إلى جماعات سياسية، وأشار إلى أن الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية تتجاهل الدمار في غزة، ما يجعل مهمة توفير رواية دقيقة للواقع الفلسطيني أكثر صعوبة.
ودعا مطر المجتمع الدولي إلى حماية الصحفيين الذين يعملون في ظروف تهدد حياتهم بصورة دائمة.
معركة الوصول إلى الميدان
وتحدثت تانيا كريمر رئيسة جمعية الصحافة الأجنبية في إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة عن جهود الجمعية لضمان وصول الصحفيين الدوليين إلى غزة، وقالت إن إسرائيل تمنع منذ أكثر من عامين دخول الصحفيين بشكل مستقل وهو ما خلق فجوة كبيرة في التغطية وأدخل الصحفيين الفلسطينيين في دائرة المهام الخطرة وحدهم.
وأوضحت كريمر أن الجمعية قدمت التماسات قانونية عدة، لكن محكمة العدل الإسرائيلية منحت الحكومة تمديدات متكررة من دون اتخاذ قرار نهائي، ورغم وقف إطلاق النار الهش، لا يعرف الصحفيون ما إذا كان سيسمح لهم بالعودة إلى القطاع، وأشادت كريمر بالصحفيين الفلسطينيين الذين يواصلون العمل رغم نقص المعدات واستمرار المخاطر الميدانية.
وفي شهادة مؤثرة قالت ابتسام عازم كبيرة مراسلي صحيفة العربي الجديد في الأمم المتحدة إن قتل الصحفيين الفلسطينيين يهدد بمحو المعرفة المتراكمة حول المجتمع الفلسطيني، ويعطل الذاكرة الثقافية ويضعف قدرة العالم على فهم الواقع، وأوضحت أن تجاهل الأصوات الفلسطينية في بعض وسائل الإعلام الغربية يؤدي إلى سرد غير متوازن يختزل التعقيدات السياسية والقانونية.
وأكدت أن حماية الصحفيين الفلسطينيين ليست مسألة مهنية فقط، بل ضرورة للحفاظ على الحق في المعرفة. ودعت إلى مساءلة حقيقية وإلى ضمان وصول الصحفيين إلى مناطق النزاع واحترام المعايير الدولية.
أولويات الحماية الدولية
وتحدثت جودي جينسبيرج الرئيسة التنفيذية للجنة حماية الصحفيين عن ثلاثة محاور يجب أن تكون على رأس أولويات المجتمع الدولي، أولها توفير الحماية الكاملة للصحفيين باعتبارهم مدنيين، وثانيها ضمان وصول وسائل الإعلام المستقلة إلى غزة بصورة غير مقيدة، وثالثها تعزيز المساءلة من خلال تحقيقات مستقلة توقف دوامة الإفلات من العقاب.
وأشارت جينسبيرج إلى وجود أدلة على استهداف متعمد للصحفيين، ما يجعل إنشاء آليات تحقيق فعالة أمراً ضرورياً لإنهاء هذا الوضع.
وفي ختام الجلسة دعا السفير رياض منصور المراقب الدائم لدولة فلسطين في الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة تضم صحفيين بارزين لتنظيم مؤتمر دولي واسع داخل الأمم المتحدة، وقال إن هذا المؤتمر سيسهم في تكريم الصحفيين الذين فقدوا حياتهم وفي رفع مستوى النقاش حول ما يتعرضون له إلى أعلى مستوى دولي.
وأضاف منصور أن الهجمات على الإعلاميين الفلسطينيين تتصاعد لأن الحقيقة هي ما تخشاه إسرائيل على حد تعبيره، مؤكداً أن غياب المساءلة في حالات مثل شيرين أبو عاقلة وياسر مرتجى يثبت الحاجة إلى تحرك دولي جاد.
يُعد العمل الصحفي في الأراضي الفلسطينية من أخطر المهن في العالم بسبب طبيعة الصراع وتكرار العمليات العسكرية وغياب الضمانات الأمنية، وتذكر منظمات دولية أن غزة على وجه الخصوص باتت منطقة شديدة الخطورة على الإعلاميين بسبب الإغلاق المتواصل والدمار الواسع وغياب الحماية القانونية، ومنعت السلطات الإسرائيلية لسنوات دخول الصحفيين الدوليين إلى غزة، ما جعل الصحفيين المحليين يتحملون العبء الأكبر في توثيق الأحداث.
وفقاً للقانون الدولي والإنساني حماية الصحفيين جزء أصيل من قواعد الحرب، وأن استهدافهم يرقى إلى جرائم خطيرة قد تستوجب تحقيقات دولية مستقلة، وفي ظل تصاعد الحاجة إلى تغطية ميدانية دقيقة، تبرز ضرورة دعم المؤسسات الإعلامية الفلسطينية وتوفير ممرات آمنة للصحفيين وضمان وصولهم إلى شبكات الاتصال، إلى جانب تعزيز المساءلة الدولية لحماية حرية الصحافة وهي ركن أساسي ليفهم العالم ما يجري في مناطق النزاع.











