التسامح الغائب في زمن الرقمنة
التسامح الغائب في زمن الرقمنة
باسم ثروت
يطل علينا اليوم العالمي للتسامح هذا العام، والعالم أمام مساقات مضطربة وسط إرهاصات بصدمات كونية وحروب عالمية بين القوى العالمية المتصارعة، فضلاً عن الجائحة والأزمات الاقتصادية.
اختير هذا اليوم عام 1995م، العام الذي وصفته الجمعية العامة لليونيسكو بعام التسامح.. فقد اعتمدت الدول الأعضاء في هذا اليوم تحديداً السادس عشر من نوفمبر من هذا العام إعلان المبادئ بشأن التسامح.
وقد عرّفت الأمم المتحدة التسامح بأنه الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية.
ففي تسعينيات القرن الماضي التي مضت مسرعة تاركة لنا اختراعاً لا ندري كيف نوصفه أو نصنفه، هل كان اختراعا بناءً مساهماً في تقدم البشرية؟ أم كان اختراعأً هداماً ضاراً لها؟ هذا الاختراع المحير للأذهان والأنفس هو شبكة التواصل الدولية (الإنترنت).
كان الهدف الواضح والظاهر للبشرية من هذا الاختراع هو تسهيل التواصل وجعل العالم أكثر قرباً، حيث ظهر فيما بعد مدى نجاح الإنترنت في جعل التواصل أكثر سهولة، فظهر في أوائل الألفينات العديد من التطبيقات الخاصة بالتواصل، أهمها الفيسبوك (2004) الذي يهدف بالأساس للتواصل الاجتماعي.
هنا يأتي سؤال موصول في ذهن الكاتب، هل ساهمت هذه التطبيقات والاختراعات في مسيرة القيم والفضائل الإنسانية أم أن العكس هو السائد؟ وندور هنا حول قيمة أو فضيلة واحدة هي التسامح، فهل بات التسامح غائباً في زمن الحداثة الرقمية؟
تقترن فكرة التسامح في العديد من المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية، ذلك لأن التسامح بالعموم يشمل نواحي الحياة كافة، ويمثل حجر الأساس في بناء المجتمعات المستقرة والمستدامة، لكن في العقود الأخيرة أصبح العالم أمام حالة من التنامي غير المشهود لخطاب الكراهية والعداء، حالة تكاد تذهب بالجميع إلى مواجهات وحروب عالمية، الأمر الذي سبب موجات من الكره والحقد في دواخل القلوب والنفوس الانسانية.
دعونا نلقِ نظرة سريعة على الماضي القريب، أي العقد الماضي، حيث شهد تنامياً غير مسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أضحت معظم المجتمعات تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها خصوصاً فئة الشباب التي تعد المحرك الأول لهذه الوسائل.
لكن ومع شديد الأسف ونزيف القلوب، كان لهذه الوسائل جانب مظلم، فقد استخدمت بغير خير البشرية، فكم من خطابات الكراهية التي تبث وتنشر على وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصاً من قبل وبعد ثورات الربيع العربي، الخطابات التي من شأنها إشعال فتيل الكراهية وعدم التسامح في النفس الإنسانية.
وكم شهدت وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الرقمنة، من حملات تنمرية على أشخاص بعينهم أو فئات معينة، أيضاً كم شهدت من حملات التشهير والسب، أصبح الكل رقيباً على الكل وكأنهم ينتظرون الخطأ لشخوصهم، متناسين تعاليم التسامح مغلقين أعينهم وآذانهم عن كل القيم الخلاقة.
رأينا التيارات الأصولية والإسلامية المتشددة والتنظيمات الإرهابية تستخدم هذه الوسائل لنشر أيديولوجياتهم، أيديولوجيات تطرح فكر رفض الآخر مقتادة بالتعصب والمذهبية البغضاء، تذبح وتقتل وتحرق على مرمى ومسمع العالم، تنشر جرائمهم النكراء وأفعالهم القذرة التي تسحب الإنسان إلى قاع الهاوية بعيداً عن القيم الأخلاقية، وبطبيعة الحال بعيداً عن التسامح.
جرائم تدمي القلوب من بشاعتها، فمنها القتل والتحرش والاغتصاب وغيرها، تظهر يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، والجريمة الأكبر هنا أن مصوريها ومنظريها من المارة الذين أصبحوا مسوخاً لا روح فيهم ولا نخوة إنسانية يرون ولا يتكلمون أو ينتفضون بلا أخلاق أو قيم، مقتادون وراء نيل الشهرة وجمع الإعجابات والتعليقات، مزيلين من قلوبهم الرحمة والتسامح.
متى يستيقظ النائمون من هذه الغفلة الطويلة؟ وأعني هنا القيم والمبادئ حيث التسامح والتساهل والرحمة وجهة وأداة، ما هو الحل ومن أين ندخل إلى التسامح؟ دعوة إلى كل مَن ما زالت تستيقظ داخل قلوبهم وعقولهم هذه الفضائل أن اليوم يبدأ من تخطيط الأمس، لا بد وأن نجدد خطاب التسامح، حيث إن الكراهيات لا تقيم الأوطان، بل التسامح البناء والخلاق والإيجابي، فإن العالم الآن في أمس الحاجة إلى التسامح بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والعمل على تطبيقه قولاً وفعلاً يعد ضرورة حتمية لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات ككل.