سيد اللعبة.. هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط
سيد اللعبة.. هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط
ترجمة : ماجدة القاضي
نحن أمام كتاب يقدم قراءة مثيرة للجدل حول تاريخ مفاوضات هنرى كيسنجر الدبلوماسية في الشرق الأوسط، ويلقي الضوء على طبيعة التحديات التي واجهت كيسنجر وحلفاؤه في محاولات الوساطة لبسط السلام بين إسرائيل و العرب.
عشرون عاما مرت منذ أن توسطت الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاقية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حاول فيها ثلاثة رؤساء أمريكيين وفشلوا، شهد عليها مارتن إنديك سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل، والمبعوث الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية ٢٠١٣، وصاحب هذا الكتاب الذي يروي تاريخ من الآمال والإحباطات وخيبة الأمل السياسية كان هو نفسه شاهد عليها.
الآن وفي محاولة لفهم طبيعة امتداد النفوذ الدبلوماسي الأمريكي ومدى تأثيره في الشرق الأوسط يعود مارتن إنديك إلى أصول جهود عملية السلام بقيادة الولايات المتحدة وإلى الرجل الذي أنشأ العملية برمتها في الشرق الأوسط، هنرى كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، ومستشار الأمن القومي الأمريكي، واللاعب البارز في السياسة الخارجية لها، والذي ذاع صيته في ما أصبح يعرف باسم دبلوماسية الوسيط المتنقل في الشرق الأوسط.
لا يزال كيسنجر شخصية مثيرة للجدل والاستقطاب في السياسة الأمريكية استنادا إلى الوثائق التي توافرت حديثا من الأرشيفات الأمريكية والإسرائيلية، بل والمقابلات الشخصية مع كيسنجر نفسه، أضف إلى كل ما سبق تفاعلات وخبرات إنديك الخاصة مع بعض اللاعبين الرئيسيين بحكم وظيفته الدبلوماسية.
يأخذ الكاتب القراء داخل غرف المفاوضات ودهاليزها الخلفية، ويعرض لقائمة من شخصيات كبيرة على مسار الأحداث _ أنور السادات _ جولدا مائير _ موشي ديان _ إسحاق رابين _ حافظ الاسد _ وكيسنجر نفسه.
ما يرويه إنديك هو تأريخ دقيق لما عاصره من احداث، بالإضافة لشهادته عليها كلاعب داخلي يسعى لاستخلاص الدروس من عملية صنع السلام في الشرق الأوسط، موضحا أن فهم تصميم وعزم هنرى كيسنجر لعملية السلام في الشرق الأوسط هو المفتاح لفهم كيفية عملية صنع السلام أو العكس.
يجسد إنديك في الكتاب الكثافة الفريدة الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتم التعامل مع كل إيمانه بريبة وشك، وكل تنازل هو مسألة حياة أو موت.
هنري كيسنجر بقلم ورؤية أنديك في هذا الكتاب صورة حية لرجل الدولة صاحب الرؤية والاتجاه حينا، و المتخبط في بعض الأحيان، تراه وهو يتعاطف ويلاطف. وهو يلوى ذراع أحدهم، ويساوم على خطوط الترسيم بالعبارات الدبلوماسية، وكيف حول سلسلة من الكوارث إلى فرص لإعادة تشكيل المنطقة العربية، كيفما ترغب السياسة الأمريكية وتطمح.
عبر الغوص في دوامة من أجل التفاوض على إنهاء الصراع حيث أمضى الجزء الأكبر من ثلاث سنوات في اجتماعات ماراثونية مع قادة إسرائيلين ومصريين وسوريين تحولت فيها نقاشاتهم إلى جلسات ساخنة من المساومات، اكتسب فيها كيسنجر زمام الأمور في التفاصيل الدقيقة حول الحدود المستوطنات.
يعيد إنديك القارىء إلى السبعينيات، حين أجرى كيسنجر مفاوضاته مع الرئيس أنور السادات، ورئيسة الوزراء جولدا مائير، والرئيس السورى حافظ الأسد، وملك الأردن حسين بن طلال، والملك السعودى فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ليسرد بالتفصيل الطريقة التي تمكن بها من المناورة مع قادة الشرق الأوسط، لينجح في الوصول لثلاث اتفاقيات سلام؛ اثنتان بين مصر وإسرائيل، وواحدة بين إسرائيل وسوريا عقب حرب أكتوبر، وإنهاء حرب أكتوبر.
ترى بوضوح في هذا الكتاب الضوء مسلط بقوة على المنطق البارد لفن الحكم لدى كيسنجر والعوامل البشرية التي أثرت عليه بحكم جذوره العقدية، ويظهر الكاتب أهداف كيسنجر الثلاثة التي سعى إليها وهى إنهاء الحروب، وإزالة السوفييت وحماية إسرائيل، وحقق بالفعل أول هدفين ولايزال الثالث إشكاليا، وينقل الكتاب عن كيسنجر قوله إن (السلام في الشرق الأوسط كان مشكلة وليس حلا والرغبة في السلام تحتاج لإيجاد نظام مستقر في هذا الجزء الشديد التقلب من العالم).
من كل هذا يخلص إنديك إلى فكرة الواقعية الكسنجرية في إشارة للمنهج الذي اتبعه كيسنجر في التفاوض عامه المعتمد على التدرج في أسلوب الحل كطريق وسط بين الطموح في السلام الشامل من جهه، واليأس والجمود وبقاء الاوضاع على ماهي عليه، ومن هذا المنطلق جاء إيمان كيسنجر بأن الطريق نحو السلام يجب أن يبقى بطيئا تدريجيا وغير متكافئ في كثير من الأحيان.
حاول كيسنجر تاريخيا، وخلال المفاوضات حفظ سلامة إسرائيل وأمنها، في وقت عد فيه القادة الإسرائيليون وجوده في دائرة صنع القرار الأمريكى كفيلا بحماية مصالحهم بسبب أصوله العرقية، أما القادة العرب فأعتقدوا أن يهودية كيسنجر كفيلة بثقة إسرائيل وقبولها تنازلات كبيرة في عملية التفاوض. وما بين الرؤيتين حقق كيسنجر رؤيته وهو المصلحة الأمريكية التى تتفق مع مصالح إسرائيل بلا أدنى شك.
سيد اللعبة ليس أول كتاب يقدم عن دور كيسنجر في المفاوضات العربية الإسرائيلية، بل فعلها كيسنجر نفسه في سيل من الكتب المثيرة الكثيفة، ولكن المثير و المختلف هنا هو كيف يرى الساسة بعضهم البعض، خاصة في لعبة صنع القرار وتبديل مصائر الشعوب.