حفصة بنت عمر.. حملت القرآن ودعت للمساواة وأسست الليبرالية الإسلامية
حقوقيات في زمن النبوة (7)
على مدار القرنين الماضيين، ظهرت لدى العرب العديد من الحركات الفكرية التي توصف بأنها ليبرالية إسلامية، وهي في مجملها تنظر إلى الإسلام على أنه دين ينادي بقيم الحرية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وغيرها من المبادئ التي توصلت إليها الحضارة الغربية حديثا.
لكن الإسلام سبق ونادى بها من قبل ذلك بزمن بعيد، ومن قلب صحراء لم تكن تعرف معنى الحضارة المدنية بعد، من خلال العنصر النسائي متمثل في أمهات المؤمنين وصحابيات عصر النبوة، ما جعلهن يشكلن حركة سياسية واجتماعية ودينية وفلسفية شاملة يسمونها في العصر الحالي بـ"الليبرالية".
منهن كانت أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، العلامة الأمينة والمحاربة في مجال العلم، حاملة ما تنأى الجبال والرجال بحمله من أمانة، كأمانة حفظ القرآن والشريعة الإسلامية، فبخلاف روايتها الحديث، كانت أم المؤمنين الحارس الأمين لقرآن رب العالمين.
لم يكن الحفاظ على مصدر التشريع الأول "القرآن" على أم المؤمنين حفصة سهلًا خاصة وقد توفي عنها زوجها، وكان ذلك في فترة خلافة أبي بكر حيث كانت تعاني الدولة انقسامًا خطيرًا وحروبًا بسبب ظهور المرتدين.
فترة مفصلية تواجه فيها الدولة شدة تهدد وجودها، ورغم ذلك لم يستبعد خليفة المسلمين أبي بكر وصاحبه عمر النساء على اعتبار أنهن حلقة ضعيفة، بل على العكس اعتُبرن مراكز قوى وحصونا وقلاعا يحتمى بهن في أضرى المعارك سواسية على جبهات عدة، فكما كان أبو بكر يحارب ليعيد للدولة وحدتها وأمنها، موجهًا طاقته للجهاد وفتح بلاد العراق والشام، كانت أم المؤمنين حفصة تحارب على جبهة جمع القرآن وتدوينه وحفظه خاصة بعد معركة اليمامة وموت كثير من حفظة القرآن فشاركت في جمع القرآن في عهد أبي بكر، وحفظ في بيتها حتى عهد عثمان.
ترجمة عملية لما تراه الليبرالية الإسلامية القائمة على أن الإسلام يشجع على مفهوم المساواة المطلقة بين جميع البشر امتدادًا لحركة الإسلام التقدمي التي بدأها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وآية الله الشيخ إياد الركابي كمؤسس للفكر الليبرالي في الإسلام وفي العصر الحديث.
لقد كانت أمرًا دخيلًا ولكنه محل ترحيب، فليبرالية أم المؤمنين حفصة بنت عمر، التي مارستها من خلال مساواة حظيت بها في نشر العلم ونقل الأحاديث وحراسة القرآن كما الرجال، وكذلك ليبرالية أبي بكر الصديق خليفة المسلمين ذي الأحكام النافذة والآراء الثاقبة والآمر الناهي، كانت أمرا جديدا يعرفه العالم الإسلامي آنذاك، ورغم ذلك قوبل بترحيب كبير لأنه في الأساس يتفق وهوى الإسلام من المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات وحرية الفكر والاعتقاد والتي عليها جميعًا قامت الليبرالية الحديثة بشقيها الإسلامي والغربي.
ولنا من تاريخنا القديم المثال الحي، فكان الخوف والرفض لكل جديد من طبيعة قريش، فقد رفضت قريش مثلاً قبل الإسلام الحنيفية، واضطهدتها، ونفت أحد زعمائها من مكة، وهو الشاعر زيد بن نُفيل، وذلك حفاظاً على الوثنية، وما توفره من ازدهار اقتصادي في ذلك الوقت.
كذلك رفضت قريش الدين الجديد، حين دُعيت إلى الإسلام، خوفًا من فقدان وطنها بسبب الدين الجديد، وقالت كما ورد في القرآن الكريم "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا".
وسبق للمفكر الليبرالي إبراهيم البليهي أن قال بصراحة وشجاعة: "أنا مسلم، وأرى أن الإسلام يخدمه أن تكون ليبرالياً، إن رفض كل جديد ليس مقصورًا على شعب من الشعوب، أو زمن من الأزمنة، فمعظم شعوب الأرض مرَّت في هذه المرحلة.. مرحلة رفض كل جديد".
ما قامت به أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها منذ 1400 سنة ويزيد، يراه البعض كفراً أو موبقات يأثم صاحبها!
ما مارسته أم المؤمنين حفصة وأيدها أبو بكر الصديق، فعلته قبل كل مفكري العالم الإسلامي كجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا، وكذلك قبل نشأة الليبرالية الغربية التي ظهرت خلال القرن السابع عشر الميلادي، أو خلال ما يُعرف بعصر التنوير.
حارسة القرآن
حظيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بموضع تقدير واحترام، فحرمتها من حرمة بيت النبوة.
وكان لبيت حفصة، حجرتها رضي الله عنها مكانة خاصة، فقد كانت مستودع ما كتب من وحي وما نزل من آيات بينات على الرقاع وألواح العظام، تصون ذلك وتحفظه فلما شرح الله صدر أبي بكر لجمع المصحف بإلحاح من عمر بعد أن استشرى القتل في القراء والحفظة أثناء حروب الردة خاصة يوم اليمامة، كان ما عند حفصة رضي الله عنها في جملة ما اعتمد عليه في المراجعة والضبط.
ولهذا اعتبرت السيدة حفصة رضي الله عنها وأرضاها أحد أهم مصادر جمع القرآن الكريم في عهد أبيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الذي أوصى بحفظ المصحف الشريف الذي كتب في عهد أبى بكر الصديق عند ابنته حفصة، وتعود قصة جمع القرآن الكريم الذي تم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وعندما توفي أبو بكر الصديق أخذ النسخة عمر بن الخطاب، ولما استشهد الفاروق وهو يصلي، أوصى عمر بن الخطاب أن تكون النسخة محفوظة لدى السيدة حفصة، وبعد تولي الخليفة عثمان بن عفان الخلافة، توالت الفتوحات الإسلامية في عهده، ودخل الكثير من غير العرب الإسلام، فأثّروا في اللغة العربية ومقاماتها، كما تأثروا بها أيضاً، وكانت نتيجة هذا التأثر اختلاف القراءة القرآنية لاختلاف الألسنة واللهجات، فعمد عثمان بن عفان إلى أن تحرق كل النسخ الموجودة للقرآن، ذلك خوفا أن يوجد به أخطاء تحرف المبنى والمعنى، وخوفاً من اللحن في اللفظ القرآني الشريف الذي تعهد الله بحفظه، وسعى إلى الاعتماد على نسخة واحدة أصيلة، وكانت هذه النسخة الأصيلة والسليمة هي الموجودة عند السيدة حفصة بنت عمر.
أمانة كبيرة، ولعل هذا ما قصده القرآن في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها"، فقد قال الطبري رحمه الله: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس”، "تفسير الطبري" (20 / 342).
وقال القرطبي رحمه الله: “الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور”، "الجامع لأحكام القرآن".
علمها وجهادها
التاريخ وأصدق الروايات وأوثقها تروي أن لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها من الفضل ما يضاف إلى رصيدها العظيم في العلم والإيمان والخلق والعبادة والأمانة.
وروت حفصة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ بأمانة الناقل وحفظ الواعي كثيرًا من الأحاديث النبوية الشريفة التي تتعلق بالأحكام والسلوك.
وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كأخيها عبدالله بن عمر وابنه حمزة وحارثة بن وهب والمطلب بن أبي وداعة وأم مبشر الأنصارية وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام وعبدالله بن صفوان والحسيب بن رافع وسوار الخزاعي وغيرهم، فأسهمت رضي الله عنها بما حفظت ووعت وفقهت وعلمت في إثراء العلوم الدينية العظيمة من علوم الشريعة المحمدية.
وكان الرسول ﷺ يسهم بين أزواجه حين يخرج لغزو أو قتال وكانت حفصة ذات مرة من أصحاب السهم فخرجت معه ﷺ كانت تقوم في خيمتها وخبائها فإذا ما أسفرت المعركة عن وجهها وانجلى غبارها شمرت حفصة عن ساعديها وخاضت بين الجرحى تسقي العطاش وتداوي المكلومين وتخفف من ألم المصابين وتضمد جراح المعذبين، وفي تلك الغزوة نفلها رسول الله ﷺ كما تذكر لنا روايات التاريخ ثمانين وسقًا من القمح وهذا إكرام من النبي ﷺ واعتراف منه بفضل وجهد السيدة المصون حفصة أم المؤمنين.
أخلاقها وفضائلها
شهدت السماء لحفصة بالمثل الأعلى في التدين والتقوى حين قال جبريل لرسول الله ﷺ عنها: إنها صؤوم قؤوم.
وعن جويرية عن أسماء عن نافع قال: صامت حفصة حتى ما تفطر.
أما حجها فحدث عنه ولا حرج، فلقد حجت حجة الوداع مع رسول الله ﷺ ثم لما اختاره الله تعالى إلى جواره الكريم كانت رضي الله عنها كلما أذن مؤذن الحج من كل عام هيأت لزيارة البيت العتيق وأداء المناسك من طواف وسعي، كذلك كانت مسارعة إلى التصدق على الفقراء والمساكين فتنفق بلا حساب لأن ما عند الله تعالى خير وأبقى فكان كل ما يقسم لها فيء وما يأتيها من أعطيات الخلفاء تجعله في ميزان حسناتها يوم القيامة بصرفه على المساكين والضعفاء والمحتاجين.
وفاتها رضي الله عنها
كانت دارها في المدينة “حجرتها في بيت أزواج النبي ﷺ” محط أنظار كبار الصحابة يأتونها زائرين ومستفسرين ومتعلمين وسائلين واصلين أو موصلين.
لا تخرج من الدار إلّا إلى المسجد لأداء الصلاة أو زيارة قبر زوجها الحبيب رسول الله ﷺ، ثم تمسح دموعها وقد استذكرت الأيام الخوالي وتعود أدراجها إلى البيت يحتضنها بحنان وتدلف إليه بشوق.
وفي العام الخامس والأربعين من الهجرة النبوية الشريفة وافاها الأجل المحتوم إثر إرهاق ومرض ولبت نداء ربها وأسلمت الروح وكانت جنازة مشهودة، حملت على سرير في نعش إلى المسجد وكبار الصحابة يتبعونها بصمت وإجلال ووقار وصلى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة في ذلك الحين.
ودفنت في البقيع وجلس مروان بن الحكم ينتظر حتى فرغ من دفنها رضي الله عنها ونزل في قبرها أخواها عبدالله وعاصم ابنا عمر بن الخطاب.