في حقوق الأمم
في حقوق الأمم
أكثر أنواع الحقوق إهمالاً، في العقود السّابقة، حقوقُ الأمم إنْ هي قورِنت بغيرها من الحقوق. يكاد ألّا يشبهها في التّجاهل والاستبعاد سوى حقوق الطّبقات الاجتماعيّة في السّواد الأعظم من دول العالم. العلاماتُ الدّالة على ذلك التّجاهُل من الكثرة بحيث لا تُحصى: من التّجاهُل التّام لهذه الحقوق في سياسات الدّول الكبرى في النّظام الدّوليّ؛ إلى خروج موضوعها من الخطاب السّياسيّ والإعلاميّ ومن المجال التّداوليّ خروجاً تامّاً؛ إلى انسحاب مسألتها من حقل البحث العلميّ في ميادين التّاريخ وعلم السّياسة وسواهما؛ إلى تراجع مكانتها -كمطلبٍ- في الحياة العامّة والسّياسيّة والحزبيّة، بما في ذلك في البلدان التي تعاني فقداناً -كليّاً أو جزئيّاً- لتلك الحقوق...إلخ. وحين يقارِن المرء أوضاع هذه الحقوق، في قسمٍ من العالم اليوم، مع ما كانتْهُ أوضاعها قبل خمسين عاماً في بلدان الجنوب، وقبل مئة وخمسين عاماً في بلدان الغرب، سيتفاجأ بالحجم المَهُول للفارق بين الحاليْن والزّمنين وقد يتعسّر عليه، كثيراً، أن يفهم أسباب هذا الأفول الذي أصاب حقوقاً هي الأُسُّ الأساس في منظومة الحقوق جميعِها!
كانت مجتمعاتُ الغرب وأممُه مَن بَادَر إلى النّضال عن هذه الحقوق، طويلاً، منذ نهايات القرن الثّامن عشر حتّى نهايات القرن التّاسع عشر، حيث ظَفِرَت بها ظَفَراً كلّفها باهظَ الأثمان. في قلب تلك الحقوق كان الحقُّ في الوحدة القوميّة غلاَّباً وأَدْعى إلى التّضحيّة. والسّعيُ إليه، ودفْعُ الغرامات الهائلة من أجل كسب معركته يَرُدُّ إلى ما كانت عليه حالُ أمم الغرب (أوروبا خاصّة)، أو أكثرِها في ذلك الإبّان، من تفكُّكٍ وتجزئة وتمزّقٍ كيانيّ للأمّة الواحدة في كيانات صغيرة: دويلات وإمارات ومقاطعات.
لقد كان المشهد الانقساميّ الفسيفسائيّ ذاك ينتصب نقيضاً لمبدأ الدّولة الوطنيّة (القوميّة) أو الدّولة- الأمّة، الذي أرساهُ الفكر السّياسيّ الحديث وخِيض في تحقيقه، سياسيّاً، منذ القرن السّابع عشر وأتتِ الثّورات الأوروبيّة، في القرن الثّامن عشر، تُعْلِن ميلاد لحظة الشّروع الفعليّ في تحقيقه الماديّ والسّياسيّ، كمبدأٍ، من مدخله الأساس: التّوحيد القوميّ لأمم أوروبا. وهو (مبدأ الدّولة- الأمّة) ما لم يتحقّق فعلاً إلاّ مع تحقيق الوحدة القوميّة للأمّة. ما كان مستغرباً، إذن، أن يصبح القرن التّاسع عشر قرنَ الثّورات القوميّة في أوروبا؛ لأنّ الثّورة الفرنسيّة فتحت إمكاناً أمام مشروع التّوحيد القوميّ بما أنجزتْه وصارت به مثالاً يُحتذى؛ ولأنّ أمم أوروبا ما كان أمامها سوى أن توحِّد شتاتَها لِتَقْوى على مواجهة المارِديْن الكبيرين في القارّة: بريطانيا وفرنسا، خصوصاً بعد تجاربها المُرّة مع الحروب الناپوليونيّة.
اليوم، لا يعني دولَ الغرب إنْ كانت أممٌ في العالم ما زالت ممزَّقةَ الأوصال القوميّة والكيانيّة، تعاني أهوال التّجزئة ومشكلاتها؛ فلقد أنجز هو وحداته القوميّة وانتهى أمر الموضوع عنده، فلماذا يشغل نفسه، إذن، بحقوق الأمم؟! الأنكى من ذلك أنّ هذا التّجاهل من الغرب لحقوق أممٍ أكثرها من الجنوب يُخفي وراءه مشاركةً فعّالة من كبرى دوله في رعاية التّجزئة في البلدان التي ترزح فيها؛ ولقد يكون المثالُ الأَظْهر لتلك الرّعاية سياساته الحريصةَ على منع أيّ شكلٍ من أشكال الوحدة بين دولٍ تنتمي إلى الدّائرة القوميّة الواحدة، هي الدّول العربيّة، وعلى تغذية الانقسام والخصام بينها على مثال ما يفعله ضدّ الصّين، حين يرعى مشروع الانفصال في تايوان، وكما يفعل تجاه الكوريّتيْن مؤلِّباً إحداهما (كوريا الجنوبيّة) على الأخرى.
انصرامُ حقبة التّوحيد القوميّ في الغرب -بعد إنجازه إيّاه-؛ ووجودُ مصلحةٍ كبرى لدوله في إجهاض مشاريع الوحدة القوميّة في العالم غيرِ الغربيّ؛ وإمعانُه في تنفيذ سياسات التّفكيك للكيانات والدّول بتوسُّل أدوات العولمة ونتائجِها قصد تعزيز السّيطرة على ذلك العالم... جميعُها يفسِّر لماذا تضاءل الاهتمامُ السّياسيّ بهذا النّوع من الحقوق الخاصّة بالأمم، ليفتح الباب أمام اهتمامٍ وحيد بنوعٍ حصريّ من الحقوق: حقوق الإنسان. إنّ هيمنة السّياسات الغربيّة، في العالم، ونجاحَها في إنجاز الهندسة السّياسيّة التي تريدها الدّولُ الكبرى لبلدان هذا العالم يترتّب عنها، حكماً، اتّساعُ نطاق هيمنة خطابها السّياسيّ النّيوكولونياليّ المعادي للقوميّات، وسريانُ مفعوله في الحياة الثّقافيّة والإعلاميّة والأكاديميّة في الغرب وفي العالم. ولقد بلغ تأثيره درجة اليقين شبه العامّ بأنّ القوميَّ رديفُ المحافظ والمناهض لِـ«الكونيّ» والإنسانيّ! وليس ذلك صحيحاً بالقطع، بل هو يخالف سنن التّاريخ وتطوُّر الاجتماع الإنسانيّ وما كشف عنه من حتميّة انتقال ذلك الاجتماع من الجماعات الصّغرى إلى الجماعات الكبرى: وأعلاها مرتبةً الأمّةُ الموحَّدة.
على أنّ التّاريخ يتحرّك بجدليّةٍ خصبةٍ دافعة مبناها على تناقضٍ بنيوي انتبه إليه كبار مفكّري الإنسانيّة (هيغل، ماركس)، ومفاده أنّ الدّيناميّات الدّافعة نحو إنفاذِ حقائق وأوضاعٍ بعينها تولِّد، في المقابل، ديناميّاتٍ نقيضاً دافعةً إلى أوضاعٍ نقيض. أمّا تَبَدّي ذلك في مسألتنا، اليوم، ففي أنّ العولمة النّيوليبراليّة الذّاهبة إلى إسقاط السّيادات، وتفكيكِ الكيانات السّياسيّة، وتمزيقِ الرّوابط الاجتماعيّة للشّعوب والأمم هي عينُها التي تدفع ضحاياها إلى المزيد من التّوحُّد لدفْع أخطارها وكفِّ أضرارها. دفعت أوروبا إلى ذلك، أمس، وهي إطارُ أممٍ أنجزت وحدتها القوميّة، فكيف لا تدفع بالأمّة الواحدة إلى السّعي نحو تحصيل حقوقها؟
من قال، إذن، إنّ حقوق الأمّة خرجت من ضمن منظومة الحقوق في العالم المعاصر؟
نقلا عن صحيفة الخليج