رغم إنصافه الأبرياء.. «العفو العام» في العراق يثير مخاوف من إخلاء سبيل «دواعش»
في ظل تجاذبات بين الشيعة والسنة
داخل سراديب ومتاهات المخاوف والصراعات، يواجه مشروع قانون العفو العام في العراق تجاذبات القوى بين الشيعة والسنة في مجلس النواب بالبلاد.
ويوم الاثنين، أدرج مجلس النواب العراقي، القراءة الثانية لمشروع تعديل قانون العفو العام رقم 27 لسنة 2016، ليخضع إلى مناقشات اللجنة القانونية ولجنة الأمن والدفاع ولجنة حقوق الإنسان بالمجلس، وذلك بعد نحو شهر من القراءة الأولى.
ويعد قانون العفو العام، بمثابة قطرة الغيث لآلاف الأسر العراقية، وأحد أبرز مطالب القوى السنية التي اشترطت إقراره أثناء مفاوضات تشكيل ائتلاف إدارة الدولة المشكل للحكومة الحالية، والذي يسيطر عليه الشيعة برئاسة محمد شياع السوداني.
ودفعت الحكومة العراقية الحالية بمشروع قانون العفو العام ضمن برنامجها، إذ أرسلته إلى البرلمان للمناقشة قبل نحو عام، وسط معارضة بعض أطراف قوى "الإطار التنسيقي" الشيعية خشية خروج إرهابيي تنظيم "داعش"، مقابل احتجاجات ومطالب سنية بالإفراج عن الأبرياء فحسب.
وعادة ما تشهد ساحة التحرير في العاصمة بغداد مظاهرات واحتجاجات لأسر السجناء، للمطالبة بالإفراج عن أبنائهم في المقام الأول، وإقرار قانون العفو العام في البلاد.
ويشكو أهالي السجناء، لوسائل الإعلام المحلية، أن أبناءهم اعتقلوا بمذكرات "غير قضائية"، وتلقوا أحكاماً بالسجن المؤبد "لارتكابهم مخالفات بسيطة لا تصل إلى الجنح أو الجنايات"، حيث يحاكمون بموجب المادة 4 إرهاب، ويحُكم عليهم بالسجن لمدد طويلة.
التعديل المقترح
ولا يشمل التعديل المقترح جميع مواد قانون العفو العام رقم 27 لسنة 2016، بل يركز على تعريف جريمة الانتماء للتنظيمات الإرهابية التي نصت عليها المادة "الرابعة- ثانياً" بأنها "الجريمة الإرهابية التي نشأ عنها قتل أو عاهة مستديمة، وجريمة تخريب مؤسسات الدولة، وجريمة محاربة القوات المسلحة العراقية، وكل جريمة إرهابية ساهم في ارتكابها بالمساعدة أو التحريض أو الاتفاق".
وينص التعديل المقترح على إضافة ما يلي: "يقصد بجريمة الانتماء إلى التنظيمات الإرهابية كل من عمل في التنظيمات الإرهابية أو قام بتجنيد العناصر لها أو قام بأعمال إجرامية أو ساعد بأي شكل من الأشكال على تنفيذ عمل إرهابي أو وُجد اسمه في سجلات التنظيمات الإرهابية".
ويثير التعديل المقترح شقاقا وجدلا واسعين، لا سيما أنه لا يشمل جرائم الاتجار بالبشر، وتجارة المخدرات، والجرائم المتعلقة بأمن الدولة الداخلي والخارجي، وكذلك جرائم الاختلاس، وسرقة أموال الدولة، وإهدار المال العام.
وفي هذا الشأن، دافع عضو اللجنة القانونية النيابية بمجلس النواب العراقي، عارف الحمامي، عن مشروع تعديلات قانون العفو العام، قائلا: "يشمل كل الجرائم باستثناء الإرهابيين، وسراق المال العام، وتجار المخدرات، والجاسوسية، لا سيما أن هذه الجرائم خط أحمر لا يمكن شمولها بالعفو".
وأضاف الحمامي في تصريحات صحفية، أن "قانون العفو العام مهم للغاية، ولكن على ألا يشمل أي إرهابي تلطخت يده بدماء الأبرياء، وباقي الجرائم الأخرى التي نعتبرها خطا أحمر في العراق".
آلاف السجناء
وكشف القيادي في تحالف "عزم" (ائتلاف سني) حيدر الملا، أن عدد المحكومين في السجون العراقية بلغ 67 ألف سجين، بينهم 20 ألفا بتهم إرهابية و47 ألفا آخرين بتهم القتل والسرقة والتزوير وتجارة المخدرات، وفق إحصاءات صادرة عن وزارة العدل.
وأوضح الملا، في تغريدة عبر حسابه على منصة "إكس": "ليس جميع المحكومين بتهم الإرهاب مجرمين، حيث يوجد بين هؤلاء بعض المشكوك في اتهامهم (..) الإحصائيات المقدمة تعكس حجم المشكلة بشكل دقيق، ولا بد من معالجة القضية بموضوعية بعيدًا عن المزايدات السياسية".
والأزمة بين السنة والشيعة متجددة باستمرار وممتدة منذ إسقاط حكم صدام حسين والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وشملت في بعض الأحيان مواجهات مسلحة وحملات انتقامية وسقوط آلاف الضحايا على الجانبين.
ويعيش البلد العربي منذ عقدين على وقع المواجهات الطائفية بين المكونين الرئيسيين الشيعي والسني، ويزيد من حدة الصدامات الأذرع الأمريكية والإيرانية المتواجدة في العراق.
دائرة الظلم
وفي يونيو 2024، قال خبراء أمميون في مجال حقوق الإنسان في بيان، إن "عمليات الإعدام المنهجية التي تنفذها الحكومة العراقية ضد السجناء المحكوم عليهم بناءً على اعترافات مشوبة بالتعذيب، وبموجب قانون غامض لمكافحة الإرهاب، ترقى إلى مستوى الحرمان التعسفي من الحياة بموجب القانون الدولي وترقى أيضا إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية".
وأضافوا آنذاك: "نصر على أن معظم الجرائم المفصلة في المادتين (2) و(3) من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005 والتي يحكم على أساسها الأشخاص بالإعدام، لا ترقى إلى مستوى الجرائم الأشد خطورة، ما يجعل عمليات الإعدام هذه تعسفية بطبيعتها".
وقال الخبراء الأمميون إن "الاستخدام السياسي المزعوم لأحكام الإعدام، وخاصة ضد الذكور العراقيين من السنة، أمر مثير للقلق العميق"، داعين الحكومة العراقية إلى الوقف الفوري لجميع عمليات الإعدام، وضمان إعادة محاكمة السجناء المحكوم عليهم بشكل عادل، لا سيما المتهمين بارتكاب جرائم تتعلق بالإرهاب.
وطالبوا بالبدء على الفور في تحقيقات شاملة ونزيهة في جميع مزاعم الاختفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة، وفقا للمعايير الدولية، وإتاحة النتائج للجمهور، قائلين: "نشعر بالقلق إزاء العدد الكبير من عمليات الإعدام التي تم الإبلاغ عنها منذ عام 2016، والتي بلغ مجموعها ما يقرب من 400 بما في ذلك 30 حالة إعدام هذا العام".
وحذر الخبراء من إجراء عمليات الإعدام التعسفية على نطاق واسع ومنهجي، والتي تنطوي على مسؤولية جنائية لأي مسؤول متورط في مثل هذه الأفعال، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق الموافقة والتأييد.
وردت الحكومة العراقية على هذه الانتقادات، بتشكيل لجنة لبحث الأمر ونفت تلك الاتهامات، غير أن العضو السابق في مفوضية حقوق الإنسان (التابعة للأمم المتحدة)، العراقي على البياتي، أكد أن خطورة التقرير الأممي تكمن في أنه يشير إلى "استخدام سياسي لملف الإعدام ضد ممثلي التيار السني".
وقال البياتي، في تغريدة عبر حسابه على منصة "إكس" إن "قوانين العفو العام يروج لها أنها خاصة بالمكون السني وأنها تخص الإرهابيين فقط، لكنها بالأصل من أجل سراق المال العام وشركاء الطبقة السياسية"، وذلك في اتهام صريح للسلطة العراقية.
حقوق إنسانية
وقال المحلل السياسي العراقي حسين السبعاوي، إن حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تشكلت على وثيقة تتضمن بنودها الموافقة على قانون العفو العام المقدم من المكون السني، وهذه ليست المرة الأولى التي يقدم فيها القانون، حيث تعد هذه ثالث مرة تتفق حكومة شيعية بشأن قانون العفو العام دون أن تحرك ساكنًا في الإفراج عن السجناء الأبرياء.
وأوضح السبعاوي، في تصريح لـ"جسور بوست" أن المكون السني ليس لديه أوراق ضغط قوية لتمرير وإقرار هذا التشريع، كما أن المكون الشيعي لا يلتزم بالمواثيق والتعهدات الوطنية، قائلا: "هذه السنة العاشرة التي يراوح فيها مشروع القانون مكانه مع الحكومات الشيعية".
واستبعد السبعاوي، أن يكون الهدف من مطالب السنة في إقرار هذا التشريع هو "تبييض" السجون أو الإفراج عن إرهابيي تنظيم داعش، مضيفا: "لم تطالب السنة بذلك ولكن، هناك أبرياء مظلومون زجوا في السجون بالوشايات وجراء الخلافات السياسية وبناء على تحريات سرية مزيفة أو كانت المناطق التي يقيمون فيها تحت سيطرة داعش، فتم القبض عليهم بالخطأ، وكل هذه العوامل تحتاج إلى إعادة نظر لتحقيق مبادئ الإنسانية والعدالة والإنصاف".
وأشار المحلل العراقي إلى أن هناك مساومة لتمرير القوانين الخلافية في سلة واحدة، وهذا السياق يتم ملاحظته بوضوح في قانوني العفو العام والأحوال الشخصية الذي يريد تطبيق أحكام الشيعة على المجتمع العراقي بمختلف ثقافاته ومذاهبه وهو محل رفض واسع".
وبرأيي أن "القضية لا تزال شديدة التعقيد ومن المتوقع أن تظل على الطاولة دون حسم حتى انتهاء دورة الحكومة العراقية الحالية"، واصفا ذلك بالسيناريو الأرجح.
واختتم حسين السبعاوي، قائلا: "لكن لو أقر القانون سيسمح بالمدانين في الجنح وليس الجنايات وبعضهم من جماعات الاتجار في المخدرات وأغلبها من المكون الشيعي، وبالتالي سيظلم السجناء الأبرياء المستهدف الإفراج عنهم بهذا التشريع".
أصداء واسعة
ولاقت تعديلات مشروع قانون العفو العام أصداء واسعة على منصات التواصل الاجتماعي في العراق، إذ قال الناشط السياسي كريم الحسيني عبر حسابه على منصة "إكس": "جلسة مساومات ينفذها محسن المندلاوي (رئيس مجلس النواب بالنيابة) للتصويت على قانون الشذوذ الجنسي، فهو يشترط على مكون السنة بالتصويت على تعديل الأحوال الشخصية مقابل التصويت على قانون العفو العام".
وأقرت السلطات العراقية قانونا يعاقب على العلاقات المثلية بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا، ما اعتبرته منظمات دولية "تصعيدًا يثير القلق في حملة السلطات لتشديد الرقابة على الحريات الشخصية".
في المقابل قالت رؤى محمود، عبر حسابها على "إكس": "إن تمرير قانون العفو العام للمجرمين هو خيانة لدماء شهدائنا وتضحياتهم. يجب على البرلمان العراقي رفض هذا القانون بكل حزم والوقوف وقفة مشرفة لنصرة المظلومين وضحايا الإرهاب. ارفضوا القانون".
وأوضح علي المهندس عبر حسابه على "إكس" أن "فلسفة قانون العفو هو إعطاء المجرم فرصة للإصلاح، هناك بعض من أجبرته ظروفه على ارتكاب فعل مُجرّم، هذا نوع يستحق الحصول على فرصة أخرى للاندماج مع المجتمع، مثل حالات السرقة والتزوير البسيطة… إلخ، أما الجرائم الإرهابية فهنا نكون أمام مجرم حقيقي يهدد المجتمع".
ومنذ عام 2014، قام التحالف الدولي ضد داعش (تقوده الولايات المتحدة) بتحرير جميع الأراضي التي كان التنظيم الإرهابي يسيطر عليها في العراق وسوريا، إضافة إلى تحرير نحو 8 ملايين عراقي وسوري كانوا يرزحون تحت نيران التنظيم الإرهابي، حتى أعلن عن تحرير كامل أراضي العراق في عام 2017.
وخرج "داعش" من رحم تنظيم القاعدة فرع العراق، وبلغ ذروة سيطرته في عام 2014 بفعل حالة الفوضى والاضطرابات السياسية بالمنطقة العربية آنذاك.