أزمة في القرن الإفريقي.. المجاعة تفتك بالملايين و500 ألف طفل بلا غذاء ولا دواء

أزمة في القرن الإفريقي.. المجاعة تفتك بالملايين و500 ألف طفل بلا غذاء ولا دواء
طفل إفريقي يعاني من الجوع - أرشيف

في الصومال، لم تعد الإحصاءات مجرد أرقام، بل مؤشرات مباشرة على حياة تتهاوى، ويواجه أكثر من 4.6 مليون شخص انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، وفق تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الصادر في 2 يوليو الجاري، من بينهم 1.8 مليون طفل يعانون سوء التغذية، وأكثر من 500 ألف في حالة هزال حاد، ما يعرضهم لخطر الوفاة الوشيكة إذا لم يتلقوا العلاج فورًا.

ومع تراجع التمويل الدولي، تتفاقم الكارثة، فلم تحصل خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2025، التي تتطلب 1.6 مليار دولار، سوى على 15% فقط حتى الآن، والأسوأ أن قطاعات حيوية كالتغذية والأمن الغذائي لم تتلقَ سوى 3% و5% من التمويل المطلوب، على التوالي.

وفي الميدان، باتت النتائج ملموسة ومأساوية، وأكثر من 150 مرفقًا صحيًا أُغلق منذ مطلع العام، بما في ذلك مراكز تغذية حيوية، ووحدها منطقة بنادر تواجه خطر إغلاق 20 مركزًا، ما قد يحرم 12,700 طفل من العلاج، أما في جنوب غرب البلاد، فقد انخفض عدد الفرق الصحية المتنقلة من 74 إلى 25 فقط، فيما توقفت جميع وحدات الصحة العامة في بونتلاند.

وبحسب "أوتشا"، فإن تقلص الدعم أدى إلى تراجع حاد في المساعدات الغذائية بنسبة تفوق 50% مقارنة بالعام الماضي، وهذا يعني وجبة أقل، أو انقطاعًا كاملاً لأيام، لمئات آلاف الأسر، وفي منطقة شبيلي الوسطى، يُتوقع إغلاق 28 نقطة تغذية بحلول نهاية يوليو.

انهيار شبكات الحماية الإنسانية

تقول الأمم المتحدة إن ما يجري لا يمثل فقط أزمة غذائية، بل انهيارًا تدريجيًا لشبكات الحماية الإنسانية، في بلد يعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية منذ عقود، ومع تعليق المشاريع وسحب الكوادر الصحية من القرى والأرياف، تبقى آلاف الأمهات والأطفال خارج أي تغطية.

وتُحذر "أوتشا" من أن الوضع يتجه نحو مجاعة شاملة إذا لم يتحقق تمويل عاجل خلال الأسابيع المقبلة، وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن تأمين تمويل كافٍ لا يزال قادرًا على إنقاذ مئات آلاف الأرواح، لكن ما ينقص، وفق الخبراء، ليس المال بل الإرادة الدولية.

ويتعرض الصومال، الذي لا يزال يدور في فلك الأزمات منذ انهيار الدولة عام 1991، اليوم لواحدة من أخطر انتكاسته، في وقت تتقلص فيه المساعدات العالمية بنسبة 20% خلال ثلاث سنوات، ما أثّر سلبًا على أكثر من 250 مليون شخص في مناطق الأزمات، من اليمن إلى غزة.

أزمة سياسية عميقة

قال الدكتور حسن شيخ علي نور، أستاذ الدراسات الأمنية في المعهد العالي للدراسات الأمنية في مقديشو، إن الأزمة الصومالية الحالية تتجاوز كونها مجرد كارثة إنسانية أو أزمة مجاعة كما يُصوّرها الإعلام العالمي، فهي في حقيقتها جرح سياسي غائر، لا يندمل إلا بإرادة سياسية صادقة، ورؤية استراتيجية جادة تعيد بناء الدولة الصومالية على أسس الوحدة والكفاءة والعدالة.

وأضاف شيخ علي، في تصريحات لـ"جسور بوست": ما يعانيه الشعب الصومالي من جوع وبؤس ليس وليد الفقر الطبيعي، بل نتيجة مباشرة لانعدام الاستقرار السياسي، واستشراء الإرهاب، وغياب الدولة المركزية القادرة على إدارة شؤون الناس وتأمين حاجاتهم الأساسية، فالصومال بلد غني بموارده، وفير بثرواته ويمتلك احتياطياً ضخماً من الثروة الحيوانية، ومياهاً غنية بالثروة السمكية، وتربة زراعية خصبة، إضافة إلى إمكانات كبيرة في قطاع الطاقة والمعادن، ومع ذلك يرزح شعبه تحت خط الحياة، لا لشيء سوى أن المجتمع الدولي لا يرى فيه سوى مساحة جغرافية مشتعلة، ولا يرغب –على ما يبدو– في دفع كلفة بناء حل دائم".

وأوضح أن اختزال الأزمة الصومالية في كونها "أزمة خبز" هو تضليل فج للحقائق، إذ إنّ صور الأجساد النحيلة والعظام النازفة التي تملأ نشرات الأخبار تخفي خلفها مشهداً أكثر خطورة: انهيار الدولة، واستغلال المعاناة الشعبية لتغذية أجندات قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تثبيت نفوذها عبر إدامة الصراع. 

وتابع: "المطلوب ليس تكديس المساعدات الغذائية، التي كثيراً ما تكون غير صالحة للاستهلاك، بل هو تفعيل الضمير السياسي العالمي، فالضمير الإنساني وحده –مع أهمية دوره– لن ينقذ أرواحاً تتساقط كل يوم تحت وطأة الإهمال، بل المطلوب تدخل سياسي عاجل يضع حداً لهذه الفوضى الممتدة منذ أكثر من ثلاثة عقود".

وأشار شيخ علي إلى أن الإعلام العالمي يلعب دوراً سلبياً في التعتيم على جوهر الأزمة الصومالية، بإصراره على توجيه الأنظار إلى مناطق أخرى من العالم، وتجاهله المزمن لما يجري في الجنوب الصومالي أو في الأقاليم الحدودية، رغم أن معاناة الصوماليين لا تقل فداحة عن أي مأساة أخرى يتصدرها الإعلام. وعبّر عن أسفه لكون المعلومات متوفرة، والحقائق معروفة، ولكن لا أحد يريد أن يراها أو يستجيب لها، وكأن الصومال خارج خريطة الوجدان الإنساني.

وتابع: "أؤمن أن للصبر نهاية، وللصمت صدى، وإن لم يتحرك الضمير العربي، وخاصة في دول الخليج العربي، فلن تكون نيران هذه الأزمة بعيدة عن أحد، فالإرهاب لا يعترف بالحدود، وإن تُركت الصومال في حالها، فإن العواقب ستطول الجميع. الصومال ليست مجرد أزمة إفريقية منعزلة، بل قضية عربية جوهرية، تمس الأمن القومي العربي، وتمس مستقبل الملاحة الدولية، والاستقرار الإقليمي، آن الأوان لإيقاظ الوعي الغافل، وتحمّل المسؤولية. الصومال يحتاج لشركاء في البناء، لا متبرعين عابرين، ويحتاج لضمائر سياسية حية قبل أن تطفئ الحياة في قلوب المزيد من الأبرياء".

الصومال على شفا المجاعة

من جانبها، أكدت خبيرة حقوق الإنسان الدكتورة إيمان بخيت، أنّ الأزمة الإنسانية في الصومال لم تعد مجرد حالة طارئة، بل مأساة ممتدة لعقود، تتجدد بأوجهٍ مختلفة في ظل غياب حلول جذرية وشاملة. وأشارت إلى أنّ الجهود الدولية المبذولة عبر المساعدات الإنسانية لم تكن كافية لوقف النزيف الإنساني، بل تفاقمت الأزمة مؤخرًا نتيجة تقليص كبير في الدعم المقدم من الجهات المانحة، وهو ما دفع الوكالات الإنسانية إلى إعادة ترتيب أولوياتها، والاكتفاء بالحد الأدنى من التدخل، في مواجهة احتياجات تتضاعف يوماً بعد آخر.

وقالت بخيت، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن هذا التراجع في التمويل ناتج بالأساس عن تغيّر أولويات المجتمع الدولي، في ضوء اشتعال أزمات جيوسياسية كبرى مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والنزاع في شمال السودان، والعدوان على غزة، ما جعل الصومال، في نظر الكثيرين، خارج دائرة "الاهتمام الاستراتيجي"، رغم فداحة معاناة شعبه. 

وأضافت أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية، وتضخم الأسعار، لعبا دورًا إضافيًا في تقليص قدرة الدول المانحة على الاستجابة السريعة، إلا أن الأدهى من ذلك أن الأزمة الصومالية لا تحظى بتغطية إعلامية منصفة، ما أضعف الوعي الدولي بما يحدث هناك من مجاعة وظروف إنسانية قاتلة، مقارنة بالأزمات الأخرى التي تحظى بالاهتمام السياسي والإعلامي معًا.

وحذّرت الدكتورة بخيت من مخاوف جدية تتعلق بسوء إدارة بعض المساعدات داخل البلاد، وانتشار الفساد على مستوى الجهات المحلية المسؤولة عن توزيعها، الأمر الذي فاقم من معاناة السكان، وأفقد المجتمع الدولي ثقته في فاعلية التدخل، هذا التراجع في التمويل، وفقًا لها، أدى إلى إغلاق عدد كبير من مراكز علاج سوء التغذية، خاصة لدى الأطفال، مع نقص حاد في الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية، ما يجعل آلاف الأرواح على حافة الموت البطيء. 

وتؤكد بيانات منظمة اليونيسف أنّ طفلًا واحدًا يموت كل دقيقتين في القرن الإفريقي بسبب الجفاف وسوء التغذية، وهو رقم صادم يجب أن يهزّ ضمير العالم.

وأضافت بخيت، أن تقليص المساعدات الغذائية اضطر السكان للاعتماد بشكل كامل على الأسواق المحلية، التي تعاني أصلًا من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، وهو ما فاقم الأزمة المعيشية وفاق حد الاحتمال لدى الفئات الأكثر هشاشة. 

وأشارت إلى وجود بعض التحركات الدولية لمواجهة الأزمة، لكنها لا تزال متواضعة وغير متناسبة مع حجم الكارثة، حيث جرى إعفاء الصومال من ديون ضخمة تقدّر بـ4.5 مليار دولار ضمن مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، كما أطلق الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) برنامجًا تمويليًا بقيمة 31.2 مليون دولار لدعم الزراعة والأمن الغذائي، إضافة إلى مشاورات أممية بشأن تجديد آليات التمويل الطارئ، لكنها لم تفضِ بعد إلى قرارات تنفيذية ملموسة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية