«يواجهون القتل والاختطاف».. صحفيو دول الساحل الإفريقي بين رحايا الأنظمة العسكرية والجماعات الإرهابية

«يواجهون القتل والاختطاف».. صحفيو دول الساحل الإفريقي بين رحايا الأنظمة العسكرية والجماعات الإرهابية

بين القتل والاختطاف والعنف، يُطحن صحفيو دول الساحل الإفريقي الخمس بين رحايا الفساد والاستبداد، وسط مخاوف حقوقية دولية بإسكات صوت الحقيقة في هذه المنطقة المأزومة.

ومؤخرا، دقت منظمة “مراسلون بلا حدود” (غير حكومية مقرها فرنسا) ناقوس الخطر بشأن محاصرة الصحفيين المقيمين في منطقة الساحل المضطربة في إفريقيا، والتي تضم دول موريتانيا، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد.

وتلعب محطات الإذاعة المجتمعية دورا حاسما في إعلام المجتمعات النائية في منطقة دول الساحل الإفريقي الخمس، وخاصة من خلال توفير المعلومات باللغات المحلية، لكن العاملين في هذه المحطات يواجهون أوضاعا أمنية متدهورة للغاية، نظرا لانتشار العنف من قبل الجماعات الجهادية وغيرهم من الجماعات المسلحة في المنطقة.

ويواجه الصحفيون القتل أثناء قيامهم بتغطية الصراعات في بلادهم، فيما يقول آخرون إن الجماعات المسلحة تمارس عليهم ضغوطا لتغيير محتوى برامجهم أو تجبرهم على إيقاف البث، ما يهدد حرية الصحافة والإعلام في المنطقة الإفريقية.

ثقب أسود ومقبرة للصحفيين

ووفق تقارير إعلامية وحقوقية، يعاني صحفيو دول الساحل الإفريقي مخاطر مهولة، إذ وصفت صحيفة "لوموند" الفرنسية في يناير الماضي هذه المنطقة بأنها "صحراء معلومات ومقبرة للصحفيين"، لا سيما أن الصحفيين يواجهون عمليات الاختطاف والتهديد والرقابة والحظر والاعتقالات.

وقالت الصحفية الفرنسية آنذاك إن اغتيال مراسلي إذاعة فرنسا الدولية في نوفمبر 2021 بمدينة كيدال شمال مالي، كان بمثابة بداية لسلسلة مروعة ونقطة تحول تاريخية حيال الصحفيين في هذه المنطقة التي تعرف بانتشار المحطات الإذاعية المحلية والحضور اللافت للفرنسيين.

ويقع الصحفيون في الساحل الإفريقي بين مطرقة المجالس العسكرية الحاكمة وسندان هجمات الجماعات المتشددة، ما يضطرهم إلى القيام بعملهم عبر تطبيقات "واتساب" أو "سيجنال" بسبب الافتقار إلى الأمن أو حرية الحركة في المناطق للتغطية الصحفية الميدانية.

وشهد عام 2023، تزايدا لافتا في عمليات قتل واختطاف وترهيب واعتقال الصحفيين في الساحل الإفريقي، على وقع سيطرة العسكريين على السلطة في بعض دول المنطقة، حيث يعد شريط الساحل الذي يعبر القارة من غربها إلى شرقها "أكبر منطقة خالية من الإعلام في إفريقيا".

وتخيم التحديات الأمنية والتوترات السياسية على منطقة الساحل الإفريقي، والتي باتت طاردة للصحفيين والمراسلين الأجانب، فيما تعاني الصحافة المحلية من تدهور متواصل منذ أكثر من 10 سنوات، جراء تصاعد أعمال العنف الذي يرتكبها المتطرفون والمجموعات المسلحة من جهة، والقيود والضغوط التي تفرضها السلطات الحاكمة من جهة أخرى.

وتقول منظمة “مراسلون بلا حدود”، إن التداعيات السلبية لانتشار الجماعات المسلحة، لا سيما مجموعة فاغنر الأمنية الروسية في مالي، أسفرت عن مقتل 5 صحفيين وفقدان 6 آخرين، إلى جانب توقيف واعتقال نحو 120 صحفيا خلال الفترة بين عامي 2013 و2023.

وتشن الجماعات المسلحة في دول الساحل الإفريقي هجمات على الإذاعات المحلية، كما تهدد الصحفيين بالعديد من المخاطر، للحد من قدراتهم على الوصول لمساحات واسعة من الأراضي ونقل معاناة السكان أو تناول القضايا المجتمعية.

وفي مالي وبوركينا فاسو وتشاد، سعى العسكريون فور تقلدهم السلطة إلى السيطرة على وسائل الإعلام من خلال الحظر أو القيود وصولا إلى هجمات واعتقالات تعسفية، بحسب تقارير محلية ودولية.

رقابة مشددة ومساعٍ منقوصة

ذكرت "مراسلون بلا حدود" أن شبكة فرانس 24 التلفزيونية وإذاعة فرنسا الدولية (إر إف إي) قررتا تعليق عملها في مالي وبوركينا فاسو، بسبب الضغوط المفروضة على الصحافة في هذه الدول تحت شعار "معالجة وطنية" والتي تعد في حقيقة الأمر "رقابة مشددة" على الموضوعات الصحفية.

فيما تعاني وسائل الإعلام المحلية في هذه الدول من أوضاع مالية متدهورة تحول دون استمرارها أو القيام بدورها بسبب قطع المساعدات الحكومية عنها والقيود المفروضة عليها والتهديدات التي تواجه العاملين بها.

وفي يوليو 2021، تأسس اتحاد صحفيي دول الساحل الإفريقي، والذي يهدف لتعزيز وتطوير القدرات المهنية للصحفيين وتشجيع المهنية وحماية حرية الصحافة في دول المنطقة، وتنفيذ برامج مشتركة لصالح الصحفيين في دول المجموعة، بحسب بيان تعريفي عبر موقعه الإلكتروني.

ولم يذكر الاتحاد منذ تأسيسه أية تهديدات يتعرض لها الصحفيون، فيما يقول إنه "يسعى إلى دعم جهود دول الساحل الهادفة إلى ضمان أمن واستقرار وتنمية دول المنطقة، وإنشاء إطار دائم للتشاور والتعاون وحشد الجهود والتنسيق بين نقابات وجمعيات الصحفيين من دول الساحل".

وفي مارس الماضي، ذكر تقرير مؤسسة الأفارقة للدراسات والاستشارات في نيجيريا، أن التطورات الأمنية في دول الساحل خلال عامي 2022 و2023 تشهد صعوبة وتعقيد بالغين رغم جهود بعض حكوماتها للتحالف والتعاون لمعالجة التوترات الأمنية.

وفي عام 2023 وقع ميثاق "ليبتاكو-غورما" بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهو اتفاق دفاع تعاوني للدعم في حالة الاعتداء، والعمل المشترك لمعالجة التمردات المسلحة في هذه الدول.

ويحمل الميثاق اسم منطقة "ليبتاكو-غورما" التي تقع وسط منطقة الساحل على الحدود مع بوركينا فاسو ومالي والنيجر، والتي تشهد حالة انعدام للأمن منذ اندلاع الثورة الليبية في عام 2011، ما أدى إلى تدفق الأسلحة والمسلحين عبر المنطقة وإشعال شرارة التمرد في بعض الدول.

وفي حوض بحيرة تشاد لا يزال إرهابيو تنظيم “داعش”-ولاية غرب إفريقيا، يواصلون أنشطتهم في بعض المناطق التي يسيطرون عليها منذ عام 2021، والتي يقع معظمها في شمال شرق نيجيريا وأجزاء من النيجر والكاميرون.

ومؤخرا يواجه التنظيم الإرهابي عدة هزائم على يد الجيش النيجيري وقوات الدول المجاورة، ما دفعه إلى تركيز أغلب أنشطته على ملاحقة أعضاء منافسيه من "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد" والشهيرة بـ "بوكو حرام" وتنفيذ عمليات الاختطاف من أجل دفع الفدية. 

تنظيمات إرهابية

ووفق آراء الخبراء والمحللين، فإنه يصعب الفصل بين أنشطة تنظيم "داعش" وهجمات "بوكو حرام"، حيث بايعت الأخيرة تنظيم داعش في عام 2015 وقامت بتغيير اسمها إلى "الدولة الإسلامية- ولاية غرب إفريقيا" لتناسب وضعها الجديد آنذاك.

لكن الخلافات القيادية والأيديولوجية بين التنظيمين الإرهابيين قسّمت الحركة وأصبحت فصيلًا منشقًا عن "بوكو حرام" حتى عام 2021، عندما قام مقاتلو تنظيم “داعش- ولاية غرب إفريقيا” بتصفية زعيم "بوكو حرام" أبو بكر شيكاوو، واستولوا على مناطق نفوذه وأجبروا مقاتليه على الانضمام إليهم أو البقاء في جزر بحيرة تشاد النائية.

وبجانب التوترات الأمنية، تعاني دول الساحل الإفريقي من اختلال في توزيع الثروات، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وندرة المبادرات التنموية الاجتماعية، لا سيما في المناطق الريفية والنائية، حيث تتركز سلطة الدولة في المناطق الجنوبية والحضرية، بينما تظل المناطق الريفية والشمالية متعطشة للتطوير ما يجعلها عرضة للاستغلال من قبل الجماعات المتطرفة المسلحة.

وتسهم هذه الأوضاع والتحديات المزمنة في ارتفاع كبير بمعدلات البطالة والفقر والهجرات غير النظامية، وخاصة بين الشباب، إلى جانب اللجوء إلى الأعمال الإجرامية المختلفة، في ظل الانقلابات العسكرية الأخيرة في المنطقة، وفشل الحكومات في تلبية تطلعات المواطنين البسطاء.

وأثرت التغيرات السياسية الناتجة عن الأزمات الأمنية على علاقات دول الساحل مع الجهات الخارجية؛ إذ أدت الانقلابات العسكرية بين عامي 2020 و2023 إلى تحول في علاقات مالي وبوركينا فاسو والنيجر مع الغرب بشكل عام وفرنسا بشكل خاص، ما أدى إلى تعليق العمليات العسكرية المشتركة لمحاربة الإرهاب بين الدول الثلاث وفرنسا، إلى جانب انهيار بعض المبادرة الأمنية والتي يأتي أبرزها "مجموعة الساحل الخمس" (تشمل بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر).

ويفاقم السياق الأمني المتدهور المأزق السياسي بين الحكومات العسكرية في دول الساحل وجيرانها، وخاصة دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) والتي تشمل 15 دولة إفريقية، إذ فرض التحالف الاقتصادي الأخير عقوبات على دول الساحل، بهدف إجبار المجالس العسكرية على تسريع الانتقال إلى الحكم المدني.

هجوم مزدوج.. وحملات تضامنية

بدوره، قال نقيب الصحفيين السودانيين، والمحلل السياسي في الشأن الإفريقي، عبدالمنعم أبو إدريس، إن وضعية الصحافة والإعلام في منطقة الساحل الإفريقي تعاني هجوما مزدوجا من قبل الأنظمة الحاكمة والجماعات المسلحة.

وأوضح أبو إدريس في تصريح لـ"جسور بوست" أن الجماعات المسلحة أصبحت لديها سيطرة على بعض المناطق النائية وهي أماكن تعتمد على محطات إذاعية مجتمعية تبث بلغات محلية ويعمل بها صحفيون من أبناء هذه المناطق، وتتسم بقوة التأثير بين الفئات المستهدفة لها، ما يجعلها هدفا لهجمات الإرهابيين والمتطرفين لإسكات صوتها أو استخدامها لخدمة أهدافها.

وأضاف: "يأتي ذلك بجانب القيود التي تفرضها الأنظمة العسكرية الحاكمة والتي لا تقبل النقد وتتعامل مع الصحافة من منطلق مفهوم الاحتكارية وليس الاستقلالية خطورة الأمر، فهذه الجماعات تنتهج العنف الشديد ما يعرض حياة الصحفيين للخطر، وهو مؤشر على تدهور أوضاع الحريات الصحفية".

وعن سبل مواجهة تلك المخاطر، قال أبو إدريس: "يستدعي الأمر إطلاق حملة تضامنية بين المؤسسات الإعلامية في إقليم الساحل لحماية الصحفيين، ومطالبة الجهات الحكومية بأن تقوم بدورها في حماية الإذاعات المحلية التي تقدم خدمات كبيرة للمجتمعات في هذه البلدان".

ومن جانبه أشار الخبير المتخصص في الشؤون الدولية والباحث الفرنسي، يير لويس ريموند، إلى أهمية دعم الأمم المتحدة لمختلف مسارات التثقيف والتوعية في دول منطقة الساحل الإفريقي.

وقال ريموند في تصريح لـ"جسور بوست" إن معظم الإذاعات المحلية المستقلة في هذه الدول تسعى رغم ضعف الإمكانات البشرية والمادية إلى تعزيز وتعميق الوعي لدى المواطنين في دول الساحل، ولذلك باتت هدفا لإرهاب الجماعات المسلحة وقيود الأنظمة العسكرية الحاكمة.

وأضاف: "يجب أن يكون الدعم الأممي غير قاصر على النواحي المالية فحسب، بل يكون على الأصعدة التوعوية واللوجيستية أيضا"، مشيرا إلى أن الصحفيين أكثر الفئات المستهدفة بمنطقة الساحل الإفريقي، حيث يدفعون ثمنا باهظا مقابل تقديم رأي حر أو تنويري أو معارض.

وحث الخبير والباحث الفرنسي، المنظمات الدولية الحقوقية والإعلامية، على ضرورة تقديم الدعم للمحطات الإذاعية والتلفزيونية المستقلة في دول الساحل الإفريقي، إلى جانب بحث سبل توفير الحماية للصحفيين في هذه المنطقة الإفريقية المأزومة.

في عام 2014، أطلقت فرنسا مهمة لمكافحة الإرهاب في دول الساحل الخمس، باسم "عملية برخان" إذ نشرت 3000 جندي، فيما دعت هذه الدول بدعم من الاتحاد الإفريقي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى تشكيل قوة دولية لتحييد الجماعات المسلحة، والمساعدة في المصالحة الوطنية.

وفي عام 2017، طلبت فرنسا من مجلس الأمن الموافقة على نشر قوة عمل لمكافحة الإرهاب تتألف من 10 آلاف جندي في دول الساحل الخمس، وأعربت روسيا والصين عن دعمهما للعملية، بينما لم تتفق الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على التمويل.

فيما توصلت فرنسا والولايات المتحدة إلى اتفاق في العام ذاته، ما أسهم في موافقة مجلس الأمن بالإجماع على نشر قوة عمل لمكافحة الإرهاب تابعة لمجموعة دول الساحل الخمس. 


موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية