«ذاكرة في مهب الريح».. كيف عصفت «حرب إبريل» بتراث السودانيين وإرثهم الثقافي؟

«ذاكرة في مهب الريح».. كيف عصفت «حرب إبريل» بتراث السودانيين وإرثهم الثقافي؟

السودان- الفاتح وديدي

بعد أيام قليلة من اندلاع القتال في العاصمة السودانية الخرطوم، في منتصف شهر إبريل من العام الماضي، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كانت الدكتورة سارة سعيد، مديرة متحف التاريخ الطبيعي تطلق نداءً عاماً عبر الأسافير لحماية الكائنات الحية النادرة بالمنشأة.

ناشد الدكتورة سارة من أجبرتهم الظروف وخاطروا بالمرور في منطقة القصف المتبادل في شارع الجامعة بأن يقتحموا أسوار المتحف ويكسروا أقفال الأقفاص بغية السماح للطيور والحيوانات بالهرب، لئلا يقتلها الجوع والظمأ والبارود المتناثر في كل مكان. 

كانت كلمات د. سارة بمثابة استغاثة أخيرة، فَقَد بعدها السودان -جنباً إلى جنب الآلاف من مواطنيه- العشرات من أنواع الزواحف والأسماك والثديّات والطيور البرية النادرة التي كانت تعيش بين جدران المكان.

قبلها بأيام، وفي حدث أقرب للكوميديا السوداء، كان أحد منسوبي قوات الدعم السريع يعبث بمحتويات مختبر علمي للآثار الحيوية بالمتحف الوطني وأمامه مومياء يناهز عمرها آلاف السنين.

كان المقاتل يشير للقطعة التاريخية الأثرية النادرة قبالته بمظنّة أنها هيكل عظمي لأحد ضحايا نظام البشير، ويزعم أنهم عثروا على عشرات الجثث المماثلة في دهاليز المنشأة، متعهداً بالثأر لمقتلهم أجمعين. 

وبعد مرور عام على تلك الأحداث أكّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة تعرُّض بعض المتاحف والمراكز الثقافية في السودان للنهب والتخريب.

وحذّرت اليونسكو في بيانها الصادر في يونيو المنصرم من ضياع ذاكرة آلاف السنين من الحضارة والمعرفة في السودان.

أضرار بالغة بالمواقع الأثرية

وقالت مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف في السودان، غالية جار النبي، إن الكثير من المتاحف والمواقع الأثرية في مناطق الصراع بالبلاد لحقت بها أضرار بالغة.

ووصفت جار النبي، خلال مقابلة خاصة مع “جسور بوست” الأضرار المشار إليها بأنها "كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى".

والأسبوع الماضي، كرّرت يونسكو، التي تتخذ من باريس مقراً لها، دعوتها إلى حماية التراث السوداني من التدمير والاتجار غير المشروع، مشيرةً إلى أن التهديدات التي تتعرض لها الثقافة وصلت في الأسابيع الأخيرة إلى مستوى غير مسبوق.

وبحسب جار النبي فإنّ كل المتاحف التي تتبع للهيئة العامة للآثار والمتاحف، وجملتها 13 متحفاً في السودان، ظلّت في مرمى القصف وعرضة للنهب منذ اندلاع الحرب.

وقال الدكتور محمود سليمان محمد بشير، مدير مكتب الآثار الإقليمي في تصريحات لـ”جسور بوست” حول مزاعم النهب والتدمير التي تعرضت لها المتاحف إنّ العديد من المواقع في الفضاء الإلكتروني تعرض آثاراً سودانية مسروقة، وهي واحدة من أوجه الاتجار غير المشروع، ذات الرّواج العالي في عالم الجريمة في كل أنحاء المعمورة؛ مثلها وتجارة المخدرات والأسلحة، حسب وصفه.

وعضد مدير الإدارة العامة للسياحة بولاية نهر النيل عبدالباقي عجيب، من رواية سلفه، قائلاً إنّ هنالك تعدّيات على المواقع الأثريّة، مشيراً إلى أنّ ولايتهم تعد واحدة من أقاليم السودان الغنية جداً بالآثار الثقافية، ولديهم عدد من المواقع المسجلة عالمياً لدى اليونسكو؛ مثل مواقع جزيرة مروي التي تشمل النقعة، والمصورات، والمدينة الملكية، وأهرامات البجراوية.

ووفقا لـ"عجيب" فإنّ التعدّيات لا تقتصر على الأعمال الحربيّة فحسب، إذ إنّ مواقعهم الأثريّة مواجهة بتحديات أخرى من شاكلة تعدّيات البيئة المناخ، مذكراً بكارثة السيول والأمطار الشهر الماضي، التي أثّرت في بعض المواقع بشدّة، ما تطلّب منهم جهوداً ضخمة؛ بغية حماية الآثار والمحافظة عليها.

تأثيرات غير مباشرة للحرب

وصنّف الدكتور محمد بشير مسألة السيول والتغيّرات المناخيّة بأنّها تندرج تحت بند التأثيرات غير المباشرة للحرب، إذ إنّ دولاب العمل في الدولة توقَّف بسبب القتال، ما يعني بالضرورة توقُّف أعمال المراقبة والصيانة الدورية للمواقع الأثريّة، وهي مهام لا غنى عنها وظلت مستمرة طوال العقود الماضية.

ولا ينسى عجيب، أن يسرد فصلاً آخر ضمن هواجس تعديات الطبيعة التي تشغل بالهم، مشيراً إلى غزو شجرة المسكيت لبعض المواقع، خاصة “المدينة الملكية”، حيث انتشرت بصورة كبيرة جداً وتسببت في الإضرار بالآثار الموجودة، في غياب التدخّلات الإداريّة لمحاربتها ووقف زحفها، إلا من بعض الجهود التي تضطلع بها وزارة الزراعة والغابات وجهات أخرى مختصة.

وكشف وزير الثقافة والإعلام في السودان، جراهام عبدالقادر، أنّ 76 موقعا وصرحا أثريّاً تم تأمينها في ولايتي نهر النيل والشماليّة إضافة لبعض المواقع في العاصمة.

حماية التراث الثقافي

وقال جراهام، الذي يشغل كذلك موقع رئيس لجنة حماية وتأمين المجاميع المتحفية والمواقع الأثرية، إن حكومته سبق أن وقّعت على الاتفاقيات الدوليّة المعنيّة بحماية التراث الثقافي؛ مثل اتفاقية لاهاي لعام 1954، واتفاقية أخرى في عام 1970 تمنع النهب والاتجار بالآثار، كما اتخذت التدابير اللازمة لحماية الصروح الأثرية التي يقع معظمها في ولايتي الشمالية ونهر النيل، وجزء من ولاية الخرطوم، مشيراً إلى أنّ هذه المواقع بعضها مسجّل في السجل العالمي للتراث الإنساني.

وفقاً لجراهام، فإنهم رصدوا تحرّك شاحنات إلى دولة جنوب السودان وألقوا القبض على بعض العناصر المتورّطة في سرقة آثار البلاد.

سرقة المتاحف الأثرية

وضجّت وسائل الإعلام العربية والغربية الأيام الماضية، بأنباء السرقات الأثرية لمتحف السودان القومي الذي يضم قطعاً تراثيّة نادرة، تؤرّخ لحضارات الشعوب السودانية منذ حقبة ما قبل التاريخ.

وقالت مدير عام الآثار غالية جار النبي، في مقابلتها مع “جسور بوست” إنّ هناك 3 متاحف تتبع لهم في دارفور بمدن نيالا والفاشر والجنينة، ومثلها في الخرطوم، وهي متاحف بيت الخليفة، ومتحف السودان القومي، ومتحف الإثنوغرافيا، بالإضافة لمتحف شيكان بحاضرة ولاية شمال كردفان، مدينة الأبيض، فيما تتوزع بقية متاحف البلاد الـ”13” على أصقاع السودان المختلفة، مشيرة إلى أن كل المتاحف تم استهدافها.

وطبقاً لغالية فإنّه لا يمكن حتى اللحظة الجزم بحجم الضرر الذي حاق بالقطاع، لصعوبة الوصول إلى المتحف والحصول على معلومات أكيدة، لكن -والحديث ما زال على لسان مديرة الآثار في البلاد- الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية تشرح الاستهداف البائن للمقار التراثية والأثرية، مثل متحف السودان القومي الذي يقع في منطقة سيطرة الدعم السريع.

حملة لاستعادة التراث 

في سبتمبر الجاري أطلق علماء آثار عالميون حملة لاستعادة التراث السوداني المنهوب، معلنين استعدادهم للوقوف إلى جانب السودان في استعادة تراثه الثقافي بشتى السبل الممكنة.

وأكد محمود سليمان، مدير مكتب الآثار الإقليمي، على أن استعادة الآثار المسروقة من السودان ممكن، ويتطلب تضافر الجهود وعملا مشتركا بين العاملين في مجال الآثار والشرطة والجمارك وذلك بالتنسيق مع الشرطة الدولية “الإنتربول”.

واسترسل قائلا، إن "الأعراف والقوانين السائدة في مجال استعادة الآثار المسروقة تنص على إثبات الدولة صاحبة الأثر قانونية ملكيتها للأثر من خلال الرقم المتحفي المعروف في كل قطعة".

وأضاف: "استعادة الآثار تتم عن طريق عمل مشترك؛ الجانب الفني يقع تحت مسؤولية العاملين في الآثار، والجانب القانوني تضطلع به الأجهزة الأمنية المختلفة، وهنالك الجانب الدبلوماسي الذي يندرج تحت مسؤولية سفاراتنا في الدول المعنية التي تظهر بها الآثار المسروقة".

ووفقاً لغالية جار النبي فقد تم إبلاغ اليونسكو والإنتربول وكذلك إدارات المتاحف العالمية الكبرى؛ مثل المتحف البريطاني ومتحف اللوفر، معربة عن أملها بعودة المسروقات في أقرب وقت، لكنها لا تستبعد أن تظل بعض القطع الأثرية بعيدة عن أعين الجهات الشرطية لأن لصوص الآثار في الغالب لا يعرضون كل البضائع التي بحوزتهم.

وكان وزير الثقافة قد أكّد تواصلهم المستمر مع سفير السودان في باريس، بوصفه الممثل الدائم للسودان في اليونسكو، مشيراً إلى جهود أخرى في إطار عملية الاستعادة للآثار المسروقة مثل تعميم نشرات في النقاط الحدودية، ومخاطبة دولة جنوب السودان بصدد المسروقات.

وأعرب وزير الثقافة عن ثقتهم وتعاونهم مع مبادرات تضطلع بها جهات أهلية مثل مركز بحوث ثقافة وتاريخ الحضارات السودانية، وهي جهة طوعية تضم 200 بروفيسور من السودانيين في مجال الآثار.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية