الإرهاب الرقمي واستغلال الأطفال.. تهديد عالمي يتطلب استراتيجيات شاملة
الإرهاب الرقمي واستغلال الأطفال.. تهديد عالمي يتطلب استراتيجيات شاملة
خلال العقود الأخيرة شهد الإرهاب العالمي تطورًا ملحوظًا من حيث الأساليب والأدوات المستخدمة، حيث لم يعد مقتصرًا على الهجمات التقليدية كالتفجيرات والاعتداءات المسلحة، فقد باتت الجماعات الإرهابية تعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا والإنترنت لتحقيق أهدافها، ليس فقط في تنفيذ العمليات الإرهابية، بل أيضًا في نشر دعايتها وتجنيد الأفراد الجدد، وخاصة الأطفال، فاستخدام الأطفال في الإرهاب يضيف بُعدًا جديدًا وأكثر خطورة لهذا التهديد المتجدد، مما يستدعي استراتيجيات شاملة لمواجهته.
أداة فعالة للتجنيد ونشر التطرف
مع التطور التكنولوجي السريع وتزايد انتشار الإنترنت، تمكنت الجماعات الإرهابية من استغلال هذه الأدوات الرقمية لتحقيق أهدافها الخبيثة، فالإنترنت أصبح مساحة مفتوحة ليس فقط لنشر الفكر المتطرف ولكن أيضًا لتجنيد الأطفال والشباب.
ووفقًا لتقرير "الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب" لعام 2023، فإن نحو 40% من عمليات التجنيد الإرهابي تتم عبر الإنترنت، حيث تستغل هذه الجماعات الفراغات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الأطفال لإقناعهم بالانضمام إلى صفوفها.
تُعد منصات التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية بيئات خصبة للتأثير على الأطفال واستدراجهم بطرق ذكية، ما يجعلهم عرضة للتلاعب النفسي، فالجماعات الإرهابية تستغل هذه الفضاءات الرقمية بشكل ممنهج لتجنيد الأطفال والمراهقين، وغالبًا ما يتم تجنيدهم في هذه الفضاءات من خلال التلاعب بمشاعرهم واحتياجاتهم النفسية والاجتماعية.
استغلال الأطفال
استغلال الأطفال في الأعمال الإرهابية يعد من أخطر الأشكال الحديثة للإرهاب؛ فهؤلاء الأطفال، الذين ينبغي أن يكونوا في ساحات اللعب والمدارس، يجدون أنفسهم في ساحات المعارك والنزاعات، حيث يتم استغلالهم لتنفيذ عمليات خطيرة.
تقرير "اليونيسف" لعام 2023 يكشف أن ما يقارب 8000 طفل تم تجنيدهم في النزاعات المسلحة بين عامي 2018 و2023، فالأطفال المجندون ليسوا فقط ضحايا الصراع، بل يتم استغلالهم أيضًا في تنفيذ هجمات إرهابية مباشرة، أو من خلال أدوار داعمة مثل التجسس أو نقل الأسلحة، وفي بعض الحالات يتم استخدامهم لتنفيذ عمليات انتحارية.
هذا التجنيد القسري له تأثيرات نفسية وجسدية هائلة على هؤلاء الأطفال، الذين يصبحون أدوات لقتل الآخرين وتدمير المجتمعات، يتعرض هؤلاء الأطفال لصدمة نفسية عميقة تجعلهم يعانون من اضطرابات نفسية طويلة الأمد، بما في ذلك اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق.
الإنترنت ساحة جديدة لنشر الإرهاب
إلى جانب استغلال الأطفال، يلعب الإنترنت دورًا محوريًا في تعزيز العمليات الإرهابية، فالمنصات الرقمية مثل "تليغرام" و"سيجنال" أصبحت أدوات أساسية للجماعات الإرهابية لنشر دعايتها والتواصل مع المجندين المحتملين.
في تقرير أصدره "الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب" لعام 2022، تمت الإشارة إلى أن 70% من العمليات الإرهابية التي وقعت في السنوات الأخيرة كانت مرتبطة بأنشطة عبر الإنترنت، فالإنترنت أصبح ساحة مفتوحة لنشر الأفكار المتطرفة وجذب الفئات الضعيفة، وخاصة الأطفال والمراهقين الذين يقضون ساعات طويلة في استخدام الإنترنت دون رقابة فعالة.
الهجمات الإرهابية التي وقعت في فيينا عام 2020 وحادثة مانشستر عام 2017 تعتبر أمثلة حية على خطورة الإرهاب الرقمي… هذه العمليات تم تنظيمها وتوجيهها عبر الإنترنت باستخدام منصات مشفرة، مما يعكس مدى تأثير التكنولوجيا الحديثة في تسهيل تنفيذ الهجمات الإرهابية.
الأطفال كأدوات في الإرهاب الرقمي
أحد أخطر التطورات في السنوات الأخيرة هو استغلال الأطفال في الأنشطة الإرهابية عبر الإنترنت، فالتقرير الصادر عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لعام 2022 يشير إلى أن الأطفال يتم استخدامهم بشكل متزايد لنشر الدعاية الإرهابية والمشاركة في الهجمات الإلكترونية، ويتم استدراجهم عبر الإنترنت، حيث يتم غسل أدمغتهم بعقائد متطرفة تجعلهم أدوات تنفيذية للجماعات الإرهابية.
وفقًا لدراسة أجرتها "جامعة كامبريدج" في عام 2022، فإن 60% من الأطفال الذين تم تجنيدهم في الأنشطة الإرهابية عبر الإنترنت كانوا يعانون من مشكلات نفسية أو اجتماعية، مثل العزلة أو اضطرابات نفسية خفيفة. الجماعات الإرهابية تستغل هذه الفجوات النفسية والاجتماعية لتجنيد هؤلاء الأطفال، مما يجعلهم فريسة سهلة لهذه الجماعات التي لا تتوانى عن استخدامهم في عملياتها.
التحديات التشريعية في مواجهة الإرهاب
أشار الدكتور محمود كبيش، الخبير القانوني لـ"جسور بوست” إلى وجود تحديات قانونية معقدة تتعلق بتأطير الرقابة والتدخل الحكومي في الأنشطة الرقمية، لا سيما في ما يتعلق بحماية الأطفال والمراهقين من التهديدات الإرهابية المتزايدة عبر الإنترنت، ويتطلب هذا التحدي القانوني توازنًا دقيقًا بين حماية الحقوق والحريات الرقمية للمستخدمين، مثل حرية التعبير والخصوصية، وبين الحاجة إلى توفير الأمن القومي وحماية الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
قوانين مكافحة الإرهاب في العصر الرقمي
وأوضح كبيش أن القوانين الحالية في معظم الدول لا تواكب التطورات التقنية التي يستغلها الإرهابيون في استخدام الإنترنت كوسيلة للتجنيد والتحريض.
وعلى هذا النحو، تطرح تساؤلات حول مدى التدخل الحكومي الممكن لتنظيم المحتوى الرقمي دون تجاوز الحدود القانونية.
وأكد كبيش أن التشريعات الحالية تفتقر إلى المرونة اللازمة للتعامل مع التهديدات المستمرة، مما يسمح للجماعات الإرهابية باستغلال هذه الفجوات، فمن الضروري تحديث القوانين لتشمل الأنشطة الرقمية بشكل أكثر صرامة وتفصيلًا، حيث أصبح الإرهاب الإلكتروني يعتمد بشكل كبير على الإنترنت لتجنيد الأفراد، لا سيما الأطفال والمراهقين.
وأضاف: في بعض الدول، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، تم اتخاذ خطوات تشريعية لتجريم المحتويات التي تروج للعنف والإرهاب… ومع ذلك، يبقى تنفيذ هذه القوانين تحديًا معقدًا، خاصة مع استخدام تقنيات التشفير والتواصل عبر منصات مشفرة مثل "تليغرام" و"واتساب"، ويتطلب هذا تعاونًا أكبر بين شركات التكنولوجيا والسلطات الأمنية لضمان عدم انتهاك الخصوصية مع الحفاظ على الأمن.
مسؤولية المنصات الإلكترونية
من النقاط الأساسية التي أشار إليها كبيش هي ضرورة وجود تشريعات واضحة تُلزم المنصات الإلكترونية بتطوير أدوات فعالة لرصد الأنشطة الإرهابية والتعامل مع المحتوى المتطرف، إذ إن التشريعات الحالية غالبًا ما تكون غير ملزمة بما يكفي لهذه الشركات لتحمل مسؤوليتها.
ولهذا، يجب أن تتضمن القوانين عقوبات صارمة ضد الشركات التي تتساهل في هذا الجانب، على غرار القوانين الأوروبية مثل اللائحة العامة لحماية البيانات.
حماية القاصرين من التجنيد الإرهابي
وأكد أنه من بين أبرز القضايا التي يجب أن تشملها التشريعات هي حماية القاصرين من التجنيد الإرهابي، إذ يجب دمج قوانين حماية الأطفال من الجرائم الإلكترونية مع قوانين مكافحة الإرهاب لضمان حماية شاملة لهم.
وتقترح هذه القوانين تطوير آليات صارمة للتحقق من هوية القاصرين على المنصات الإلكترونية، واستخدام الذكاء الاصطناعي لرصد الأنشطة المشبوهة التي تستهدف الأطفال.
التعاون الدولي والتحديات القانونية
في ما يتعلق بالتعاون الدولي، أشار كبيش إلى أن الإنترنت لا يعرف الحدود الجغرافية، وهو ما يتطلب تطوير إطار قانوني عالمي يسمح بتبادل المعلومات وملاحقة الجناة، ويجب أن تخضع الدول التي توفر ملاذًا آمنًا للمجرمين الرقميين لمساءلة قانونية صارمة.
وفي هذا السياق، أضاف المهندس محمود شكري، الخبير التقني، أن التكنولوجيا نفسها التي يستخدمها الإرهابيون يمكن أن تكون سلاحًا فعالًا في التصدي لهم.
وأشار إلى أهمية تطوير أدوات تقنية قوية تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبيرة لرصد النشاطات المشبوهة على المنصات الرقمية.
كما أشار إلى أن تقنيات التشفير تشكل تحديًا مزدوجًا؛ فهي تحمي خصوصية المستخدمين، لكنها قد تعوق جهود مكافحة الإرهاب. لذا، يجب إيجاد توازن بين الخصوصية وتعزيز الأمن من خلال تطوير تقنيات فك التشفير بالتعاون مع الحكومات.
أهمية التوعية الرقمية
وتابع: يعد التثقيف الرقمي جزءًا لا يتجزأ من مواجهة الإرهاب الإلكتروني، حيث يجب تعليم الأطفال وأسرهم كيفية استخدام الإنترنت بأمان.
وأكد شكري ضرورة إدخال برامج تعليمية حول الأمان السيبراني في المناهج المدرسية، بحيث يتعلم الأطفال كيفية التعامل مع المحتويات الخطرة وإبلاغ البالغين عن أي نشاط مريب.
واختتم شكري مؤكداً أنه لمواجهة الإرهاب الرقمي واستغلال الأطفال عبر الإنترنت يجب أن تتضافر جهود الحكومات، وشركات التكنولوجيا، والأسر، منوهاً إلى أن التقنية نفسها التي يستخدمها الإرهابيون يمكن أن تصبح سلاحًا فعالًا في مواجهتهم إذا ما تم استخدامها بشكل موجه وصحيح.