تيتو مبويني.. «مهندس» حقوق العمال و«مهاجم» الفصل العنصري في جنوب إفريقيا

تيتو مبويني.. «مهندس» حقوق العمال و«مهاجم» الفصل العنصري في جنوب إفريقيا

أراد في بدايات شبابه حمل رشاش كلاشينكوف ضد السياسة العنصرية التي اتبعتها حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، لكن سفينة حياته رست في نهاية المطاف بين الأوراق النقدية والمناقشات الاقتصادية، بمسيرة حقوقية ونضالية عامرة بالإنجازات.

بهذا الإرث ترك الوزير السابق الجنوب إفريقي تيتو مبويني، بعد أن وافته المنية، سجلاً ناصعاً ومحطات مضيئة من الكفاح ضد سياسات الفصل العنصري، ودعم حقوق العمال، وتحسين النظام الاقتصادي في بلاده.

والأحد، أعلنت الرئاسة في جمهورية جنوب إفريقيا، في بيان، وفاة الوزير السابق تيتو مبويني، عن عمر يناهز 65 عاماً بعد صراع قصير مع المرض، واصفة وفاته بـ"الصدمة"، إذ كان معروفاً بأنه أنشأ قانون العمل في بلاده بعد انتهاء نظام الفصل العنصري وواصل مسيرة سياسية طويلة بعد عودته من المنفى عام 1990.

وقال رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا في البيان: “لقد فقدنا زعيماً، وأحد بني جلدتنا، خدم أمتنا ناشطاً ومبتكراً في السياسة الاقتصادية ومدافعاً عن حقوق العمال، بصفته محافظاً ووزيراً للمالية، كان لديه تركيز حاد على الانضباط المالي والتحول الاقتصادي”.

ومبويني، هو سياسي وخبير اقتصادي وناشط حقوقي بارز، حيث يُعرف بنضاله العمالي لإنصاف المهمشين، حتى أطلق عليه لقب "مهندس حقوق العمال" في حقبة ما بعد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

مناصب وإنجازات

وشغل تيتو مبويني العديد من المناصب، أبرزها وزير العمل بين عامي 1994-1998 في الحكومة التي عينها الرئيس نيلسون مانديلا، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في عام 1994، ثم توليه منصب محافظ البنك المركزي لجنوب إفريقيا بين عامي 1999-2009، وبعد ذلك تولى حقيبة وزارة المالية بين عامي 2018-2021 وهي فترة شهدت العديد من التحديات بسبب الإغلاق الذي فرضه تفشي فيروس كورونا.

وكان لمبويني دور كبير في إدارة السياسة النقدية والاقتصادية لجنوب إفريقيا خلال فترة التحول الاقتصادي بعد نهاية الفصل العنصري، إذ كان يُعرف بسياساته الاقتصادية الصارمة ودعمه الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد الجنوب إفريقي، كما أنه دعا إلى تقليص الإنفاق الحكومي من أجل السيطرة على العجز المالي.

واشتهر مبويني على نطاق واسع لدوره كمحافظ للبنك الاحتياطي لجنوب إفريقيا من عام 1999 إلى عام 2009، ليصبح أول شخص من أصحاب البشرة السمراء في جنوب إفريقيا يتولى هذا المنصب، وتميزت فترة ولايته بالحفاظ على استقرار الأسعار وإدارة التضخم.

وكان مبويني يدعو إلى الانضباط المالي، بما في ذلك خفض الإنفاق الحكومي، وتشجيع الإصلاحات الهيكلية لتعزيز الاقتصاد، وذلك رغم كونه عضواً في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم، حيث كثيراً ما اتخذ مواقف اعتبرت متشددة بشأن الإنفاق الحكومي، الأمر الذي جعله في بعض الأحيان على خلاف مع الفصائل الأخرى داخل الحزب.

وخارج الإطار السياسي، اتسمت حياة مبويني بالنشاط داخل الأوساط الأكاديمية وقطاع الأعمال، ما أدى إلى مشاركته في العديد من المناقشات العامة حول السياسات الاقتصادية، ليكون بذلك من أبرز الشخصيات الموثوق بها في المشهد الاقتصادي بجنوب إفريقيا.

وبشأن إنجازاته الحقوقية، عُرف عن مبويني بشكل خاص جهوده الدؤوبة في إنشاء قانون العمل الذي أعاد حقوق العمال بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، كما ساهم بشكل فعال في تحسين النظام الاقتصادي والاجتماعي وصياغة سياسات العمل في جنوب إفريقيا، حيث لقبته وسائل الإعلام في بلاده بـ"مهندس حقوق العمال".

كما لعب مبويني دوراً مؤثراً في تشكيل السياسات الحكومية التي تدعم العدالة الاجتماعية وتساهم في التنمية الاقتصادية، وترسيخ المبادئ المعنية بتعزيز حقوق الإنسان والمساواة بين جميع المواطنين، ووضع القواعد لتأسيس وبناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية.

واهتم تيتو مبويني بمنصات التواصل الاجتماعي، إذ اعتبرها أداة جديدة للتثقيف والتوعية للأجيال الجديدة في بلاده، وحرص على التواجد ومشاركة آرائه السياسية والاقتصادية والحقوقية والشخصية في الشأنين العام والخاص عبر المنصات الاجتماعية.

حياة صاخبة

يقول المقربون من مبويني إنه كان شخصاً فريداً يتنقل بين عدة أدوار، من شخص مثقف، إلى شخص طنان، فهو ضاحك بشكل صاخب، وغاضب إلى درجة السخط، لكنه نادرا ما ينتقص من قيمة نفسه، ولذلك ابتعد مبويني عن حياة حرب العصابات التي كان من المحتمل أن ينخرط فيها إلى نخبة خبراء السياسات النقدية والاقتصادية في بلاده.

كما كان تيتو يستطيع أيضاً الانتقال بسلاسة من هيبة ووقار مجالس الأثرياء ورجال الأعمال والمثقفين إلى مناكفات وملاسنات تغريدات الشباب والمراهقين عبر منصات التواصل الاجتماعي، تلك التناقضات التي كانت تجعله يقوى على نفث دخان سيجاره غالي الثمن وسط مجالس الشباب الذين يعانون خيبة الأمل.

ورغم أن مبويني جمع ثروة كبيرة، فإن اسمه لم يرتبط يوماً بالفساد الذي قضى على كثير من السياسيين في جنوب إفريقيا، وظل حتى آخر أيام حياته محتفظاً بلقب "حضرة المحافظ" حتى بعد 15 عاماً من ترك المنصب لكنه ظل الأقرب لعقله ووجدانه.

ولم يكن مبويني حريصاً على الشكليات أو ارتداء الملابس غالية الثمن، فلم تجبره الملامح الجادة وهالة الوقار التي كانت تغلف خطواته وحركات جسده، على الظهور بالملابس الرسمية في جميع المناسبات، بل كان يفضل السترات الملونة الواسعة والسراويل الجينز حتى أثناء توليه المناصب القيادية في بلاده.

وشهدت حياة تيتو مبويني تحولاً دراماتيكيا، إذ قبل نحو 15 عاماً على توليه حقيبة وزارة العمل، بينما كان النضال ضد التمييز العنصري يزداد زخماً في عام 1980، قطع دراسته الجامعية وعبر مملكة ليسوتو الجبلية وأخبر أول مسؤول منفي رأه في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، أنه يريد حمل السلاح ضد حكومة الأقلية البيضاء في بلاده.

وتستعيد ذاكرة مبويني، في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معه، ما قيل له من مسؤول المنفى آنذاك، حيث أخبره أن "معظم الشباب متشددون جداً ويغضبون بسرعة، ويتسببون في حدوث فوضى (..) لن تحصل على أي سلاح، أنت لست مستعداً للقتال. أنت قليل الخبرة".

وعن نضاله لإلغاء الفصل العنصري، يقول مبويني: "في الطفولة كان البيض يذهبون إلى المتجر لاختيار البضائع، بينما السود كانوا ممنوعين من الدخول، يقفون في الخارج ويشيرون إليها فقط (..) إنه أمر مهين وصارخ ولا يحتاج إلى أي تعليم سياسي".

وبعد فترة التحول والنضج، انتقل تيتو من التفكير في النضال المسلح إلى دراسة علم الاقتصاد، حيث انتهى به الأمر في جامعة إيست أنجليا في إنجلترا، واجتهد في دراسته على أمل أن ينتهي القتال ويكون هناك بلد يحتاج إلى أفكاره وإدارته.

وفي عام 1990 بعد بضعة أشهر من إطلاق سراح الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، عاد مبويني من منفاه إلى بلاده، ليتولى بعد 4 سنوات حقيبة وزارة العمل وهو بعمر 36 عاماً في أول حكومة لمانديلا، إذ يحكي تيتو ذكرياته مع مانديلا قائلاً: "أعتقد أننا جئنا من جيل مختلف. قمنا فقط بما يجب القيام به. لم يكن هناك وقت لعقد صداقات".

ومنذ عام 1994 حتى وفاته، لم تفرغ حياة مبويني من المشاركة والعطاء سواء أثناء توليه المناصب الوزارية، أو بعد ذلك عندما كان ضيفاً دائماً على الندوات الثقافية والجلسات الحوارية والمؤتمرات الاقتصادية داخل وخارج جنوب إفريقيا.

وبصورة مفاجئة أسدل الستار على حياة واحد من أهم رجالات جنوب إفريقيا، حيث كان تيتو مبويني مؤمناً بأن التغيير الإيجابي يتطلب جهوداً متواصلة وإيماناً بالعدالة، وكانت حياته تجسيداً لهذه المعاني المليئة بالتحديات والإنجازات، ورغم الرحيل يظل الإرث الذي تركه ملهماً للأجيال القادمة ومحفوراً في تاريخ جنوب إفريقيا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية