مقتل سائحة سويسرية يزيح الستار عن القيود المفروضة على وسائل الإعلام بالجزائر
وسط تعتيم حكومي كامل
بحالة من الصمت التام، امتنعت السلطات الجزائرية عن التعليق على حادث مقتل سائحة سويسرية في البلدة السياحية جانت (جنوب شرق) ما أثار الانتقادات الدولية وفتح ملفات التعامل مع قضايا الأمن والسياحة ووسائل الإعلام في البلد العربي.
وتجنبت وسائل الإعلام الجزائرية التطرق إلى تفاصيل الحادث، وطالبت السلطات السكان بعدم نشر أي معلومات بشأن الجريمة على منصات التواصل الاجتماعي، وسط مساعي البلاد لزيادة السياحة من خلال تخفيف القيود على التأشيرات والترويج للمناظر الطبيعية.
وتناولت وسائل الإعلام الأجنبية، تفاصيل الحادث الذي وقع في 11 أكتوبر الماضي، حيث قتلت سائحة سويسرية عندما هاجمها رجل بسكين أمام أطفالها خلال وجودهم على أحد المقاهي في بلدة جانت، كما أفادت وزارة الخارجية السويسرية بأن الضحية كانت ضمن مجموعة من خمسة سياح سويسريين، دون تفاصيل أكثر.
ووفق هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية "آر تي إس" فإن الشاب الجاني صاح أثناء ارتكاب جريمته بعبارتي "الله أكبر" و"تحيا فلسطين" قبل فراره من مكان الاعتداء.
وأثار الحادث مخاوف عدة بشأن مستوى الأمن والاستقرار، خاصة في ظل مساعي تعزيز صناعة السياحة في الجزائر، غير أنه أثار أيضا الانتقادات حيال القيود المفروضة على وسائل الإعلام بشأن الشفافية وإمكانية الوصول إلى المعلومات للجمهور المحلي والدولي.
قيود على الإعلام
وخلال العام الماضي، أصدرت الحكومة الجزائرية حزمة من القوانين المنظمة للمشهد الإعلامي لتلائم تعديلات الدستور التي جرت في عام 2020، والتي يأتي أبرزها القانون العضوي للإعلام، والصحافة المكتوبة والإلكترونية والسمعية البصرية.
ولاقت هذه القوانين العديد من الانتقادات الدولية، إذ قالت منظمة مراسلون بلا حدود (غير حكومية، مقرها فرنسا) إنها تتضمن "فصولا سلبية تشكل انتهاكا لحرية الصحافة، وتمنع مزدوجي الجنسية من حق امتلاك أو المساهمة في وسيلة إعلامية جزائرية، كما تُلزم الصحفيين بالكشف عن مصادرهم أمام القضاء".
وقالت "مراسلون بلا حدود"، إن "الإطار التشريعي الجزائري يميل إلى تقييد العمل الصحفي، حيث يفرض الدستور على وسائل الإعلام احترام ثوابت الأمة وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية"، كما تزداد التهديدات وأساليب الترهيب في حق الصحفيين باستمرار، في ظل غياب تام لآليات الحماية اللازمة للحريات الإعلامية.
ووفق مؤشر حرية الصحافة لعام 2024، والذي أصدرته "مراسلون بلا حدود"، تحتل الجزائر المرتبة الـ129 من أصل 180 دولة، لا سيما في ظل تراجع مناخ الحريات وحبس الصحفيين والتضييق على الشركات العاملة في مجال الصحافة وتوقيف الوسائل الإعلامية.
وفي عام 2019، شهدت الجزائر احتجاجات شعبية حاشدة للمطالبة بتراجع الرئيس الراحل، عبدالعزيز بوتفليقة، عن الترشح لولاية خامسة، وأطلق عليها داخل البلاد اسم "الحراك الشعبي"، حيث رضخ بوتفليقة لضغوط الشارع وقدم استقالته، وتولي الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، مقاليد البلاد بعد فوزه في رئاسيات ديسمبر 2019.
وعادة ما يقول تبون إن حرية التعبير والصحافة وتأسيس المطبوعات والقنوات الفضائية مصونة للجميع بموجب الدستور، غير أن الجزائر غالبا ما تواجه انتقادات دولية واسعة بشأن التضييق المتعمد على الحريات وتهديد وملاحقة الصحفيين في البلاد.
اتهامات غامضة
ويواجه المشهد الإعلامي في الجزائر تحديات كبيرة في السنوات الأخيرة، مع زيادة القيود على الصحفيين ومحدودية حرية التعبير، لا سيما منذ بدء الحراك في عام 2019، وزاد الأمر مع تفشي جائحة كورونا في عام 2020، إذ كثفت الحكومة حملات القمع على الصحفيين والإعلام والحريات المدنية.
وساهمت هذه العوامل في تقييد الأصوات المستقلة التي تطالب بالحقوق والحريات، كما واجه الصحفيون والناشطون مضايقات قانونية، واحتجازاً تعسفياً، وحظر السفر، وغالباً بتهم غامضة تتعلق بـ"أمن الدولة" أو "الوحدة الوطنية".
وقد أدى قانون الإعلام الأخير إلى تفاقم هذه المشكلات من خلال تقييد التمويل الأجنبي لوسائل الإعلام، ومنع المواطنين المزدوجين من ملكية وسائل الإعلام، ومطالبة المنافذ بالتوافق مع الروايات التي وافقت عليها الحكومة.
وأثار هذا القانون، إلى جانب التدابير العقابية مثل الاعتقالات وإغلاق المؤسسات الإخبارية المستقلة، مخاوف بين منظمات حقوق الإنسان الدولية، التي قالت إن الحكومة الجزائرية تستهدف بشكل منهجي العاملين في مجال الإعلام والمعارضين.
وبررت الحكومة الجزائرية هذه التحركات باعتبارها إجراءات لحماية المصالح الوطنية، لكن المعارضين يقولون إنها تحد من الحريات الأساسية وتقوض تقدم الجزائر نحو الشفافية والحوار المفتوح، كما تؤثر هذه البيئة المقيدة أيضًا على قدرة المجتمع المدني على التحرك والتفاعل مع القضايا المختلفة في البلاد.
وبحسب تقديرات غير رسمية، تعيش أكثر من 180 صحيفة، و30 قناة تلفزيونية عامة وخاصة، وعدد كبير من المواقع الإلكترونية، على الإعلانات التي تمنحها الحكومة عن طريق جهازها "وكالة النشر والإشهار"، وذلك في ظل انقطاع الإعلانات الخاصة في السنوات الأخيرة، بسبب ركود يعيشه اقتصاد البلاد المعتمد بشكل كبير على مداخيل بيع النفط والغاز.
والشائع في أوساط الصحفيين بالجزائر أن الوكالة هي وسيلة في يد الحكومة لـ"مكافأة المؤسسات الإعلامية الموالية بإغداق أموال الإشهار عليها، ولتأديب المعارضين لسياساتها بحرمانهم منها".
تداعيات وإخفاقات
وقال المحلل السياسي الجزائري الدكتور إسماعيل خلف الله، إن المشهد الإعلامي عقب إقرار القانون الأخير لا يزال يفرض قيودا على الصحفيين، حيث لجأ المشروع الجزائري إلى إلغاء العقوبة السالبة للحرية في جرائم النشر والإعلام، والاكتفاء بعقوبة الغرامة المالية فقط كجزاء عن هذه الجرائم، سعيا منهم لتحقيق مبدأ حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وهو أمر إيجابي ومستحسن داخل الدوائر السياسية والإعلامية.
وأوضح خلف الله في تصريح لـ"جسور بوست"، أن المادة 24 من قانون الإعلام الجزائري على سبيل المثال أقرت بفرض غرامة مالية على الجرائم الصحفية قدرها 45 ألف دينار جزائري (340 دولارا)، إضافة إلى مواد أخرى تفرض غرامات مبالغا فيها لا تتناسب على الإطلاق مع متوسطات الأجور التي يتقاضاها الصحفيون.
وأضاف: "ينص القانون على أن عدم تسديد الغرامة المالية قد يعرض المتهم إلى تنفيذ أحكام الإكراه البدني (السجن) وذلك حسب مقتضيات المادة 597 من قانون الإجراءات الجزائية، ومع هذه الحالة لن يكون هناك مفر من حبس الصحفيين، ولذلك يجب أن يجرى تعديل تشريعي بتخفيض الغرامات المالية".
ومضى خلف الله، قائلا: "القانون أيضا ينص على أن إجراءات المتابعة بدءا من مرحلة التحقيق وتوجيه الاتهام وانتهاء بجلسات المحاكمة والنطق بالحكم، لم يخصها المشروع الجزائري بإجراءات خاصة بل ظلت خاضعة للإجراءات العادية، الأمر الذي لا يجعلها تتلاءم مع مبدأ حماية الصحفي من العقوبة السالبة للحرية".
حادث فردي
وتحدث الأكاديمي والخبير الاقتصادي الجزائري، مراد كواشي، عن احتمالات تضرر السياحة في بلاده جراء وقوع الحادث، قائلا: "سيكون هناك تأثر محتمل بالطبع إلا أنه سيظل حادثا فرديا لا يمكن تعميمه".
وأوضح كواشي في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الجزائر تملك مؤهلات ومقومات سياحية هائلة سواء شاطئية أو جبلية، ورغم ذلك لا تزال المساهمة السياحية في الاقتصاد الوطني ضئيلة للغاية بالمقارنة مع بعض الدول المجاورة في المنطقة.
وأضاف: "يجب على الحكومة أن تضع خطة وإستراتيجية لتطوير السياحة بدءا من الترويج للتعريف بالأماكن السياحية في الجزائر وصولا لتطوير شبكة الطرقات والمواصلات، وذلك حتى تصبح البلاد واجهة سياحية كبيرة".
وتاريخيا، شهدت الجزائر، ما يعرف بـ"العشرية السوداء" خلال حقبة التسعينيات، والتي تمثلت في المواجهات المسلحة بين الإسلاميين والحكومة، ما أسفر عن عشرات الآلاف من الضحايا، عقب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ديسمبر 1991.