بين ضرورات الأمن وواجبات حقوق الإنسان.. هل يلتزم العالم بحماية المهاجرين؟

بين ضرورات الأمن وواجبات حقوق الإنسان.. هل يلتزم العالم بحماية المهاجرين؟
صورة تعبيرية عن انتهاكات حقوق المهاجرين

في عالم يشهد تزايداً متسارعاً في أعداد المهاجرين، لم تعد الهجرة خياراً ثانوياً، بل أصبحت ضرورة للعديد من الأفراد الباحثين عن الأمان والعيش الكريم. تتعدد دوافع الهجرة بين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، والحروب والصراعات، وأيضاً تأثيرات التغير المناخي.

 أدت هذه التحولات إلى ارتفاع أعداد المهاجرين واللاجئين إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث قُدّر عدد المهاجرين الدوليين في عام 2021 بنحو 281 مليون شخص، وفقًا لتقرير الهجرة العالمي الصادر عن منظمة الهجرة الدولية، مع زيادة سنوية ملحوظة، وعلى الرغم من التحديات التي تفرضها هذه الظاهرة على الدول المستقبلة، تظل مسألة حقوق الإنسان في سياسات الهجرة مطلباً ملحاً يتزايد يومًا بعد يوم.

واقع حقوق المهاجرين

واقع حقوق المهاجرين في الدول المستقبلة لا يزال بعيدًا عن الالتزام بالمعايير الدولية، حتى مع وجود اتفاقيات عالمية توفر إطاراً لحمايتهم، مثل "الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية" الذي اعتمدته الأمم المتحدة في 2018، ويهدف هذا الاتفاق إلى حماية حقوق المهاجرين وتسهيل الهجرة المنظمة، لكنه يفتقر للإلزام القانوني، ما يسمح للعديد من الدول بعدم الالتزام به في الواقع العملي، ويؤدي إلى انتهاكات واسعة النطاق لحقوق المهاجرين بحجة "الحماية الأمنية".

في الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يعكس الإنفاق الضخم على تعزيز الحدود -حيث بلغ أكثر من 3 مليارات يورو في عام 2021 وحده- توجهات تركز على منع الهجرة بدلًا من توفير الحماية اللازمة للمهاجرين، وبينما تشير الإحصاءات إلى وفاة أكثر من 10 آلاف مهاجر غير نظامي على حدود الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط منذ عام 2014، تستمر السياسات المتشددة التي تتحمل مسؤولية مباشرة عن تعريض حياة آلاف الأشخاص للخطر، ويُنظر إلى الحدود الأوروبية على أنها جدران حماية من الهجرة غير النظامية، لكنها في الواقع تشكل حاجزًا قاتلًا أمام المهاجرين الفارين من ظروف قاسية أملاً في حياة أفضل.

في الولايات المتحدة، تعكس سياسة الاحتجاز الجماعي للمهاجرين غير النظاميين جانبًا آخر من أزمة حقوق الإنسان في سياسات الهجرة، ووفقًا لإحصائيات منظمة هيومن رايتس ووتش، تم احتجاز ما يقارب 600 ألف مهاجر في عام 2020 وحده، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال، ويتعرض هؤلاء المهاجرون في مراكز الاحتجاز لظروف غير إنسانية تشمل الاكتظاظ، وغياب الرعاية الطبية، وسوء المعاملة، ويعاني الأطفال المهاجرون غير المصحوبين من أسرهم بشكل خاص من تأثيرات نفسية وجسدية خطيرة، ما يبرز الحاجة الملحة إلى بدائل إنسانية للاحتجاز، خاصة للفئات الأكثر ضعفًا كالأطفال.

ولا تقتصر الانتهاكات على الاحتجاز، بل تمتد إلى سياسات الترحيل القسري في بعض الدول الأوروبية، والتي تنتهك مبدأ "عدم الإعادة القسرية"، أحد أركان القانون الدولي لحقوق الإنسان، ففي ألمانيا، تم تسجيل أكثر من 11 ألف حالة ترحيل في عام 2020 دون ضمانات سلامة للمُرحّلين، ما يعرضهم لمخاطر الاضطهاد والتعذيب في بلدانهم الأصلية.

أما في المنطقة العربية التي تعتمد بعض الدول فيها بشكل كبير على العمالة المهاجرة، فإنه وفقاً لمنظمة العمل الدولية، يواجه العمال ساعات عمل طويلة وأجورًا منخفضة، ويفتقرون إلى حقوقهم الأساسية مثل حرية التنقل.

الحرمان من الخدمات الأساسية

بالإضافة إلى الاحتجاز والترحيل، يُحرم العديد من المهاجرين من الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، ففي بعض الدول، تُحرم الفئات المهاجرة من الرعاية الصحية والتعليم بحجج أمنية أو اقتصادية، ما يترك آثاراً سلبية على المجتمع ككل، وفي اليونان، تعاني المخيمات المخصصة للاجئين من نقص حاد في الخدمات الصحية والبنية التحتية الأساسية، ما يعرّض حياة آلاف اللاجئين للخطر، ووفقًا لتقارير منظمة أطباء بلا حدود، يعاني نصف الأطفال في هذه المخيمات من مشاكل صحية ويفتقرون إلى التعليم والرعاية النفسية، ما يهدد مستقبلهم.

حماية حقوق المهاجرين

وفي هذا السياق، يأتي "الاتفاق العالمي من أجل الهجرة" كإطار لحماية حقوق المهاجرين، وتوفير مسارات قانونية آمنة، وتجنب الاحتجاز التعسفي، ومع ذلك، فإن الالتزام بهذا الاتفاق ضعيف، حيث لم تتخذ سوى أقل من 20% من الدول الموقعة عليه إجراءات فعلية لتحقيق أهدافه، وفقًا لتقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ويعكس هذا التراخي غياب الإرادة السياسية، ويترك المهاجرين في دائرة معاناة مستمرة دون أمل في تحسين أوضاعهم.

وبينما تتجاهل الدول المضيفة إسهامات المهاجرين المحتملة، تشير الدراسات إلى أن الهجرة يمكن أن تساهم في النمو الاقتصادي، خاصة في المجتمعات التي تعاني من نقص اليد العاملة، لكن رغم هذه الفوائد، لا تزال الهجرة تُعتبر عبئًا أو تهديدًا، ما يعكس سياسات تفتقر إلى الإنسانية والتوازن في التعامل مع قضايا المهاجرين.

ويرى حقوقيون أن معالجة أزمة الهجرة تتطلب تعزيز التعاون الدولي واعتماد سياسات تحترم كرامة الإنسان، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بتطوير إطار عالمي ملزم يضمن حماية حقوق المهاجرين ويعزز قدرات الدول المضيفة، فالعالم بحاجة إلى تغيير النظرة تجاه المهاجرين من كونهم عبئًا إلى اعتبارهم جزءًا من الحل للتحديات التنموية.

بيئة خصبة لانتهاكات خطيرة

أشار الخبير الحقوقي البحريني، علي بن زويد، إلى أن سياسات الهجرة الراهنة، في ظل الأزمات الإنسانية المتفاقمة، أصبحت بيئة خصبة لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، حيث تغلبت الاعتبارات الأمنية والسياسية على قيم الكرامة الإنسانية والعدالة الفردية، وذكر أن قوانين الهجرة الدولية تهدف إلى حماية كرامة المهاجرين وضمان معاملتهم بإنصاف، إلا أن الانتهاكات تتوالى بشكل يجعل حياة الملايين من المهاجرين عُرضة لمصاعب قاسية ومميتة أحيانًا، عبر سياسات الاحتجاز والترحيل التي تحوّل المهاجرين إلى مجرد أرقام، متجاهلةً حقوقهم الأساسية.

في حديثه مع "جسور بوست"، أكد بن زويد أن مبدأ "عدم الإعادة القسرية" يعدّ من أساسيات حماية المهاجرين، إذ يحظر إعادة الأفراد إلى أماكن قد تعرضهم للخطر، غير أن هذا المبدأ يشهد تهميشًا واضحًا، خاصة في أوروبا، حيث تتم عمليات إعادة جماعية للمهاجرين إلى دول غير آمنة، ما يشكل تهديدًا صريحًا لحياتهم، وتتعامل عدة دول مع المهاجرين بصورة جماعية دون دراسة حالة كل فرد، الأمر الذي يكشف عن فجوة واضحة بين الالتزامات القانونية والممارسات الفعلية على أرض الواقع.

احتجاز المهاجرين

أضاف بن زويد أن الاحتجاز الجماعي للمهاجرين يعدّ أحد أبرز الانتهاكات الصارخة لحقهم في حرية التنقل والكرامة الإنسانية، حيث يعاني العديد من المهاجرين من احتجاز في مراكز مزدحمة تفتقر إلى الشروط الصحية الملائمة، ويستهدف هذا الاحتجاز، غالبًا، ردع المهاجرين الآخرين، غير أنه يمثل انتهاكًا فادحًا لحقوق الإنسان الأساسية، إذ يمنعهم من العيش بكرامة ويحرمهم من الحماية الضرورية.

وأوضح بن زويد أن الأطفال المهاجرين هم الفئة الأكثر تضررًا في ظل سياسات الهجرة الحالية، حيث يُحرم كثيرون منهم من التعليم أو يواجهون ظروف احتجاز غير آمنة مع عائلاتهم، ويتنافى ذلك مع مصلحة الطفل الفضلى المنصوص عليها في القوانين الدولية، كما يفتح الباب أمام تساؤلات حول مسؤولية الدول التي تتجاهل التزاماتها القانونية، تاركةً هؤلاء الأطفال عرضة للأضرار النفسية والجسدية في خرق واضح لحقوقهم الأساسية.

الالتزام الدولي والتنفيذ الفعلي

أكد بن زويد أن الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 2018، يواجه تحديات كبيرة في التنفيذ، إذ لا تلتزم به العديد من الدول، ما يجعله مجرد إطار قانوني خالٍ من الأثر العملي، وأشار إلى أن هذا الواقع يطرح إشكالية جوهرية تتعلق بغياب آليات ملزمة تُجبر الدول على الالتزام بما وقعت عليه من اتفاقيات دولية، ما يكرّس استمرار انتهاكات حقوق المهاجرين في مراكز الاحتجاز والمخيمات الحدودية.

دعوة لإصلاحات قانونية 

اختتم بن زويد حديثه بالتأكيد أن سياسات الهجرة الحالية انحرفت عن مبادئ حقوق الإنسان، مهيمنًا عليها الاعتبارات الأمنية والسياسية على حساب كرامة المهاجرين، وأوضح أن وقف هذه الانتهاكات يتطلب جهودًا دولية موحدة لدفع الدول نحو توازن حقيقي بين احتياجاتها الأمنية وحقوق المهاجرين، فحقوق الإنسان، في نظره، يجب أن تكون غير قابلة للتفاوض، وهي العامل الوحيد الذي يوحد البشرية في مواجهة تحديات العصر بعيدًا عن الانقسامات التي تزيد من الظلم والانتهاكات.

حقوق الإنسان وأولويات الأمن القومي

وبدوره، أكد خبير القانون الدولي كمال يونس أن السياسات الحالية للهجرة تنتهك بشكل صارخ معايير حقوق الإنسان، حيث تركز العديد من الدول على التحكم الصارم في حركة المهاجرين، متجاهلة الالتزامات الدولية، وأوضح أن الإطار القانوني للهجرة يعتمد على حقوق أساسية، مثل الحق في الأمان والكرامة والسعي إلى حياة أفضل، كما نصت عليها اتفاقيات دولية كاتفاقية اللاجئين لعام 1951، ومع ذلك، تُغفل هذه الحقوق لصالح أولويات الأمن القومي.

تهديد حياة المهاجرين

وأشار يونس، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، إلى أن عمليات الترحيل الجماعية والإعادة القسرية تشكل انتهاكًا صارخًا لمبدأ "عدم الإعادة القسرية" الذي يعتبر أساس قانون اللجوء الدولي، والذي يمنع إعادة الأفراد إلى أماكن قد يتعرضون فيها للتعذيب أو الخطر، وذكر أن بعض الدول، خاصة في أوروبا، تعتمد سياسات ترحيل صارمة تمنع المهاجرين من تقديم طلبات اللجوء، ما يمثل تقييدًا لحقهم في الحماية القضائية وخرقًا للقانون الدولي.

الاحتجاز الإداري

وأكد يونس أن الاحتجاز الإداري للمهاجرين يعدّ من أخطر الانتهاكات القانونية، حيث يتم احتجاز الأفراد دون محاكمة أو تهمة لفترات طويلة وفي ظروف غير إنسانية، وبيّن أن هذا النوع من الاحتجاز ينتهك حق المهاجرين في الحرية والأمن الشخصي، ويخالف المعايير القانونية التي تضمن حق كل فرد في محاكمة عادلة وتمنع الاحتجاز التعسفي.

حماية شاملة للأطفال 

تطرق يونس إلى أن الأطفال المهاجرين هم الأكثر تضررًا من سياسات الاحتجاز، إذ يُحرم كثيرون منهم من التعليم والرعاية الصحية، ويتعرضون للاحتجاز في بيئات غير آمنة، ما يتعارض مع مبادئ حقوق الطفل المنصوص عليها دوليًا، وأوضح أن عدم توفير حماية شاملة للأطفال يضع الدول المعنية في موضع المساءلة القانونية، خصوصًا في ما يتعلق بحقوقهم الأساسية في الأمان والنمو السليم.

فجوة التنفيذ 

أضاف يونس أن العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، تظل غير مفعّلة بسبب غياب الآليات الملزمة التي تجبر الدول على الالتزام، ويرى أن هذه الاتفاقيات غالبًا ما تكون مجرد أطر قانونية غير قابلة للتنفيذ، ما يؤدي إلى استمرار انتهاكات حقوق المهاجرين بسبب عدم التزام الدول بتطبيق معايير إنسانية في سياساتها.

إصلاحات تشريعية 

وختم يونس حديثه بالتأكيد أن تشريعات وسياسات الهجرة الحالية لا تتماشى مع التطورات الإنسانية، حيث تُنتهك الحقوق الأساسية للمهاجرين بذريعة أمن الدولة، وشدد على أن تحسين أوضاع المهاجرين يتطلب إصلاحات جذرية في القوانين والسياسات، بما يضمن توافقها مع مبادئ حقوق الإنسان، كالحق في الحياة الكريمة والحماية من الاحتجاز التعسفي.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية